اليوم 27 أيّار ذكرى عام على رحيل أخي الحبيب راجح الخوري الكاتب والصحافي في صحيفة "النهار".

استهلك عمره المُثقل بالمعاني والمسؤوليات سابحاً في بحور من الحبر المنخرط في الرسولية. لكنّ بقي السؤآل الذي راح يُطاردني وما زال وما برح :

"لماذا تمّ دفنه في كفرحباب في كسروان؟

الجواب: هي الوصيّة.

ويبقى في الصدور جواب صامت قد يحملها هذا النص أنشره بينما الأحباب في قرية الكفير "تحت" السنديانة تُظلّلها جبهة حرمون المحفوفة بالثلج .

تحمل هذه الرسالة دموعاً ورحمةً لا تنتهي أستلّها من ملفّ رسائل ومقالاتٍ ونصوص ومواسم تتجاوز الأخوة بيني وبين أخي راجح غنيّة حافلة بعلامات الإستفهام الفلسفية والمحبة الأبدية حيث لا مكان إطلاقاً للنقطة الختامية في ما بيننا .

اشتقت إليك، وهذا نصّ إحدى رسائلك أحتفظ بها منذ 55 سنة وأردّها إليك كما طلبت منّي فيها آنذاك لننشرها ولربّما تكتب وتنسر حيث أنت:

بيروت 19، الساعة الثانية ليلاً، 1967.

نسيم...

أيها الطفل الحبيب...

...ما كنت أحسب يوماً أنني سأضطرّ لأن أحدّثك عن المرارة، وعن الطعم الحقيقي للحياة، وعن ذلك الوجه المخيف الذي نغطّيه بأقنعة الأيّام. حتى كان ما حصل بالأمس:

ألقيت كلمتك التعيسة على الطاولة ومشيت متمرّداً، هكذا من غير شيءٍ آخر، و" تنهار جسور العالم ولتتقطّع حبال المراسي: لعبة العصر، عصر السحق العميق".

تركت الكلمة على الطاولة بعدما شاركت في مظاهرة أطلقوا عليها الرصاص وكدت ...".

تشاجرنا وارتفعت أصواتنا في الليل وغادرت غرفتينا حانقاً نحو ما لست أدري...

كلمتك هزّتني، وليس لأنني مؤمن بما تقول. إنها جميلة ومثيرة، وإنني من طينةٍ أخرى، لي مواسم من القناعات، تليها مواسم أخرى، وهكذا، لم أجد في قناعاتي ما يتناسب مع كلمتك المُلقاة تبحث عن جواب.

إسمع. قد لا تُدرك الآن ما أرمي إليه بالذات. يوماً قد تدفعك الحياة وتضعك على الحافة، وعندها تبدأ بالإدراك.

الإرادة، موازين العلاقات، المفاهيم المتعارف عليها، الصح والخطأ، التمرد والثورات في بلدنا كلّها تسقط في نطاق الكذبة البلهاء، في نطاق الخديعة الكبرى. ثمّة شيء واحد يشكّل نقطة البداية، الإنسان لشدّة ما اعتبره نوعاً من المخلوقات الرخوة، فلنقل أنّه دودة الشرنقة، ثمّ تجيء هذه الأشياء تلتفّ فوقه، طبقة فوق طبقة حتّى يموت.

الإرادة، الأعراف، الأحاسيس، كلّها مؤآمرة قذرة على حياة الإنسان.

إنّ اللعنة الكبرى هي أنّ الإنسان ليس مطلقاً وأنّه نسبي، أعرف أنّك لن تُدرك. للحياة في نظرك ونظر الآخرين وأنتم الغالبية المطلقة مفهوم متحرك في قوالب متغيرة وجليّة، وينتهي كلّ شيء. ربّما هذه هي النوعية البشرية السعيدة . لَكَمْ أتمنّى لك أن تقف عند هذه القناعة لكي تسعد.

هناك نوع آخر من الناس:

المتمرّدون حتى الجنون، المُتحرّرون من كلّ شيء، لأنهم يعتبرون الإنسانية مطلقة، الإنسانية متفلّتة من كلّ النسب والأمكنة والأزمنة، هؤلاء هم التُعساء الحقيقيون وأنا منهم.

لا تُجهد نفسك. لن تفهم ما أعني، فما زالت مداركك طرية على هذا، ولنقُل أنّك طفل ذكي وشرّير، وأنّ الأطفال الأشرار في العالم يقتنصون من أشقائهم وذويهم ومعارفهم القسم الأكبر من المحبّة، وأحياناً الإعجاب والقلق، وقد يكون هذا لأنّهم بشكلٍ أكيد الأذكياء.

تقول في كلمتك يا نسيم: "تتحطّم الأشياء فتزول وتعود فتلتئم لتعيد بناء الزوال"، إسمع: إنّ هذا الكلام ساذج جدّاً. لا شيء في العالم يتحطّم ويعود فيلتئم. التحطّم هو الموت، والموت هو الزوال، ومن الزوال، لا ينبت نبات، ولا يفرّخ نمو، ولا يحدث التئام..

فلنقل، تموت أشياء، وتتوالد أشياء جديدة، ثمّ تموت، ويتوالد غيرها، وهكذا تستمرّ اللعبة.

الزوال شيء غير حاصل، لأنّ اللعبة مستمرّة أبداً. الزوال إحساس تحمله الأشياء في ذاتها. ولنعتبر أنّ الإنسان من هذه الأشياء. نحن نشعر بوجود مصيرٍ إسمه الزوال، لآننا نحن نزول، أمّا اللعبة فتستمرّ.

نحن من نحن؟ أوراق خريفٍ تسقط ماء الجدول، ثمّ تحملنا الجارية، إلى أين من يدري؟

فلماذا نخنق أنفسنا بالأعراف.

إنّها قصّة طويلة. فماذا أقول لك بعد، بإمكاني أن أستمرّ في الكتابة طيلة عشر سنوات، ويظلّ في رأسي الشيء المُحرق. يظلّ في صدري الإحساس بأنّني لم أقل ما أريد أن أقول.( مات جبران وهو يقول: كلمتي لم يظهر منها سوى الدخان).

كلّنا كذلك. يقتلنا أننا رؤوس بارعة جدّاُ، ولنا روْى بعيدة جدّاً، ما نكاد نشكّ رايتنا في هذا الجبل، حتّى يتراءى لنا جبل آخر في الأفق، فنعاود السعي، ثمّ نموت فجأةً ونحن لم نصل بعد. يا للّعنة.

وفي دوّامة السعي، والإنسان كالمأخوذ يحدث "أن يزعل" وليس في هذا تبريراً لإعتباره " إنسان صغير". إنّ اللحظة هي الصغيرة، والصدفة هي الصغيرة.

هناك نوع من البشر يتألّفون من قسمين: القسم الرائع، والقسم القذر. القسم الرائع منهم هو الرأس والمخيّلة، والقسم القذر هو باقي الجسد، فما يقوله اللسان- وهو يتبع القسم القذر- ليس دليلاً على جوهرهم، لأنّ رأسهم (جوهرهم) لا يموت إطلاقاً إن يكن معهم، إنّه يبقى دائماً فوف قمّة ما بعيداً.

فلتكن أيّها ألأخ الشاطر مباركاً، لأنّك ذكي، ولأنّك تمكّنت من إثارتي إلى هذا الحدّ.

دائماً أشتاق إلى ذلك الجبل حرمون، إلى حقول الصخور والشيح، تنسج في الليل حكايات الريح والصمت والأصالة. هناك كنتَ تحلم ولداً باصطياد النسور ونجحت حتّى ولو وقف النسرُ على فوهة بندقيتك "الدك".

أعلم أنّ تيساً واحداً من الماعز معلّقاً فوق الوادي في جبٍّ من السنديان يساوي كلّ ما في هذه المدينة، من ركضٍ، وعربات إسعاف تصرخ وسط الليل، ورائحة دخّانٍ تُغذّينا بالمرض يوماً بعد يوم، وأعلم أن وجه فلاّحٍ عجوز، يقف فوق بعكوره في "قرقار" ويروح يحدّق في المدى البعيد، يساوي في شموخه كلّ ناطحات السحاب في العالم.

خذها عبرةً أخوية، حقيقة أصدق من الكتب المقدّسة، أنّ كلّ تعقيدات المدن، وكلّ انهيار أعصابها، وحوداث انتحارها، وكلّ أمراضها العصبيّة المُخيفة حاصلة لأنّ الأنسان قد بعُد كثيراً عن الطبيعة، عن حقول الشيح والقندول، وعن الصخور البعيدة في الجبل، تحكي في الليل حكايات الريح الصاعدة.

إنّها الثالثة والنصف بعد منتصف الليل، سيارات الإسعاف تعوي كالذئاب، ثمّة اصطدام في مكانٍ ما من المدينة، ثمّة حكايةٍ موتٍ لعينٍ قاسٍ بين أسنان الحديد والزجاج، وقتل الإنسان ما أضعفه.

يتحوّل الوالد في نظري، يوماً بعد يوم شجرةٍ رائعة القوّة والنقاء، فلنقل شجرة سنديانٍ كريمة الظلّ في هذا الجبل، إن قفلت إلى هناك فاحمل له كلّ الخضوع والإحترام.

إيّاك أن تحفّزني للكتابة هكذا مرّة ثانية، فما قيل هنا يصلح لقصّةٍ أدبية لا لرسالة.

على كلٍّ إحتفظ بهذه الأوراق لتعيدها إليّ.

واسلم.

راجح