اصطيادُ النَّاسِ مِن أجلِ "مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ" ليس بالأمرِ السَّهلِ على الإطلاق.
مِن جِهّةٍ أولى، نَجدُ فيه المشَقّاتِ والصعابَ والمخاطِرَ والتضحياتِ والاعتقالاتِ والعذاباتِ والاستِشهاد. هَذا ما عاشَه تلاميذُ المَسيح، الذين دَعاهُم الرَّبُّ ليكونوا صيّادِيّ النَّاس مِن أجلِ الملكوتِ السَّماوِي: "هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ" (متّى 19:4).
أمّا مِن جِهةٍ ثانِيَة، فهناك مُقاوَمَةٌ لا يُستهانُ بها مِن قِبَلِ مَن يتمُّ اصطيادهُم. ليسَت مُقاومَة ضِدَّ صَيّاديِّ الملكوت فحَسب، بل مُقاومةٌ شَرسِةٌ بينَ الّذين عَلقوا بشَبكةِ الصَيّادين.
المقاومَةُ كائِنةُ بين الإنسانِ القَديمِ والإنسانِ الجديد. هذه هي أمُّ المعارِك، لأنَّ الإنسانَ القَديم لا يرمي سِلاحَه بِسهولَة أبَدًا، بل يُتَّقِنُ فَنَّ الخِداعِ بامتياز، وهوَ بَارِعٌ بالتضليلِ والتَّرغيب! كلُّ ذلكَ حتّى لا يَخرج أَحدٌ مِن حُفرَةِ مَعاصيه، بَل يَبقى رازِحًا تحتَ ثِقَلِ خَطاياه مُستعبَدًا لها، ومَحرومًا مِن حُريَّةِ أبناءِ الله.
لا يَكِفُّ المُخادِعُ مِن التَسلُّلِ، بِشَتّى الوسائِل، لِيَدخُلَ إلى النّفسِ التي سَبقَ وتَحرَّرت مِنه، لكَي يبني فيها قَلعَةً له، ويَدعو رِفاقَه، ويُعيثونَ خَرابًا ودمارًا أَكثرَ مِن السَّابِق. وهذا تمامًا ما حَذَّرنا الرّبُّ مِنه (لوقا 26:11).
يشرحُ الأبُ توماس فامفينيس[1] في عِظَتِهِ حولَ دعوةِ الرّبِّ للتلاميذ، في إنجيلِ هذا الأحَد (متّى 18:4-23)، فَيقول: "ما أن يَقعَ السَّمكُ في شبَكَةِ الصَيّادينَ حتّى يَبدَأ بالمُقاوَمِة، ويُحاوِلَ مِن كلِّ قِواه أن يُفلِتَ مِن الطُعمِ ليَعودَ مُجَدَّدًا إلى المِياه، لأَنَّهُ في الخارجِ لا حَياةَ له بل مَوتٌ مُحَتَّم".
هكذا يكونُ خُروجُ الإنسانِ مِن بَحرِ الخطيئةِ الذي لا يَمرُّ دونَ مُقاوَمَةِ الشِرّيرِ عَدُوِّ الإنسان، الذي يُريدُنا أن نبقى فريستَه، حتّى يَقضي عَلينا بالكُليّة.
إنَّ شبَكةَ الرَّبِّ تُحيي بينَما شَبكةُ إبليس تُميت، فَالأوَّل هو النُّورُ والحَياة، والثَّاني هُو الظلمَةُ والمَوت.
لقَد أُعطيَت لنا هذهِ الحياةُ لكي نَتقدّسَ فَنربَحَ حياتَنا الأَبَديَّة. يَقولُ بولس الرسول في هذا الاتّجاه: "فَإِذْ لَنَا هذِهِ الْمَوَاعِيدُ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، مُكَمِّلِينَ الْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ اللهِ." (2 كورنثوس 1:7).
صحيحٌ أَنّنا نَعيشُ في عالَمٍ صَعبٍ جِدًّا، حيثُ كَثرةٌ مِن المفاهيمِ الإنسانيّةِ قد تَعرّضَت للتَشويه، بما في ذلك العائِلة، لا سيَّما الأبُ والأم. وصَحيحٌ أنَّه في كلّ يومٍ يَطلُّ علينا انحرافٌ يَليهِ انحرافات، مِن قبيحٍ إلى ما هو أقبح، ومِن شنيعٍ إلى ما هو أشنع، وتنتشرُ هذه الانحرافاتُ بسرعةٍ مَهولَةٍ عَبْرَ وَسائلِ التَّواصُلِ الاجتماعيّ، وتُشكِّلُ في عالَم الاجتماع والإعلامِ والإِعلان، والاقتصادِ والتّسويقِ ما يُعرَفُ بــِ : "مفعولِ لُعبةِ الدومينو L’effet domino"، أيّ اصطفافُ حِجارةٍ بشكلٍ منتَصِبٍ جَنبًا إلى جنب، حيثُ تَقعُ الأولى على الثانيةِ والثانيةُ على الثالِثَة، وهكذا دواليك، حتّى ينتهي الأمرُ بسقوطِ جميعِ الحِجارة.
إلّا أنَّ هذا الأمرَ مع التكنولوجيا الحديثَة، يُشكّلانِ لنا وَسيلةً كُبرى وناجحِة لِنشرِ البِشارَة في كلِّ أقطارِ الدنيا.
هذا تمامًا ما حدثَ في القرون الأولى، حيثُ استفادَ الرُّسلُ لنَشرِ الإنجيل، عَبْرَ طُرقِ المواصلاتِ البريّةِ والبَحريَّةِ التي طَوّرتها الإمبراطوريَّة الرُّومانِيَّة لتَسهيلِ تنقّلاتِ جيوشِها.
هذا هُو دورُنا، وهذا ما يطلبُه الرَّبُّ مِنّا كَما طلبَهُ مِن الرُّسُل، أن نكونَ نُورُ هذا العالَم ومِلحُه. فعندَما بدأَت المَسيحيَّةُ بالانتشارِ كانت أقليَّة في وَسَطِ مجتمعٍ يهوديٍّ وآخَر وَثنيّ. ومع ذلكَ استطاعَت أن تَطرقَ أبوابَ قلوبِ كثيرين.
يبقى العاملُ الأساسيُّ مِصداقِيَّة حاملِ البِشارَة، ففاقِدُ الشَيءِ لا يُعطيه.
تستَوقفُنا في هذا السِياقِ رسالةٌ مِنَ القرنِ الثَاني ميلاديّ موجَّهةٌ إلى الإمبراطورِ ترايانس مِن الحاكِم الرُّومانيِّ لمدينةِ بيثينيةَ بلينس الأصغر، رجلِ القانونِ والسّياسَة. الرسالةُ جَوابٌ عَن المسيحيينَ، يقولُ فيها: "يجتمِعون في يَومٍ مُعيَّن قَبلَ طلوعِ الشَّمس، يُرنِّمونَ معًا، بينَ جَوقَتَين، نَشيدًا للمسيح، كما لو كان إلهًا، ويُقسِمونَ على أَلّا يرتَكبوا أيَّةَ جريمَة، أو سَرِقَة، أو عَمَلٍ مُشين، أَو زِنًى، وَأن يَفوا بِوعودِهِم.".
خلاصَة، يُريدُنا الرَّبُّ شهودًا لَه أحياء، أُناسًا يعيشونَ الإنجيلَ بِتَوبَة صادِقَة وَمَحبَّة، وَينقلونَ شُعاعَ النورِ الإِلهيِّ إلى كلِّ المسكونَة.
الربُّ أعطانا لنَكونَ ملحَ الأَرض، ولكِن حَذارِ أن يُفسَدَ هَذا الملحُ، لأنَّه يُرمى حينَئِذٍ إلى الخارِج ويُداسُ بِالأَرجُل.
إلى الرَّبِّ نَطلُب.
[1]. كتاب صوت الرّب – عظات في أناجيل الأحاد – ترجمة دير السيّدة كفتون.