الكنيسَةُ حياةُ شَرِكة. لا يَفصلُ الغِيابُ أحَدًا عن هذِه الشَركَة. بل إنَّ الراقدينَ هم أحياءٌ بالرّبِّ القائِم مِن بينِ الأَموات. ونحنُ نَذكرُهم دائِمًا بِصلواتِنا، ونُقيمُ لهم ذِكرانِيّات. وتَأتي عِبارَةُ "فَليَكُن ذِكرهُم مُؤَبَّدًا"، ترجمةً لإيمانِنا بالحياةِ الأبديَّة.

في صلاةِ السَحَر، قَبلَ القدّاسِ الإلهيّ، يقفُ الكاهنُ أمامَ المذبَح المقَدَّس القائِمِ على حِدَةٍ عَن يسارِ المائدةِ المقدَّسة، أثناءَ تحضيرهِ للذبيحَة الإلهيَّة، ويَذكُرُ أسماءَ الأحياءِ والراقدينَ: "أُذكر يا رَبّ ...".

يَذكرهُم الكاهنُ وحدَه، كما وقَد يساعدُه شمَاسٌ أو شخصٌ مُنتَدَب للخِدمةِ في الهيكل المُقدّس.

إنَّ ذِكرَ الأسماءِ هي قِمَّةُ شَراكَةِ الرّبِّ لنا بتجسُّدِه. لقد أتى إلَينا بسببِ فَيضِ محبَّتهِ ليرفعَنا إليه، حتّى لا نَبقى غُرباءَ عن مَلكوتِه السَّماويّ. لا بل لكَي يَتَّحِدَ جميعُهم، أحياءٌ وراقِدون، بالمسيحِ الذي هو الكلُّ في الكلّ.

لقَد تكلَّم كثيرٌ مِن القِدّيسينَ على حَميمِيَّة ذِكرِ الأسماء، وما يَعيشُه الكاهنُ حينذاك. إنّها تُدخلُه إلى عُمقِ خِدمَتِه الكَهنوتِيَّة، ومسؤوليَّتِه أَمامَ المِنبرِ الإِلَهيّ الرَهيب.

إنَّها ليست عمليَّة ترديدِ أسماء، وقد تكونُ كثيرَة. فكلُّ اسمٍ هو شَخصٌ وحَياةٌ بحاجةٍ لرَحمةِ الله. فَمهما طال عمرُ الإنسانِ وعَظُمَ شَأنُه، سَيكونُ في النهايَة اسمًا.

يُعلِّمُنا إيمانُنا أنَّ المسيحيينَ لَيسوا هُنا على الأرضِ أَسماءً فَقط مُدوَّنة بالحِبرِ على الوَرق، بَل هُم أسماءٌ مكتوبَةٌ في سِفرِ الحياةِ الأبديَّة في السَّماء. إِنَّها أسماءُ أُناسٍ لم يَموتوا بل يَرقدون. وذَلكَ في حالِ اتَّحَدوا، أَثناءَ مسيرَةِ حياتِهم، بِمصدَر الحَياة الذي هو الرّبُّ يسوعُ المسيح.

هَذا تدبيرٌ إِلهيٌّ لا مَثيلَ لَه. كَم كَبيرةٌ هيَ خَسارَتُنا إِن لَم نَحيا فيه!.

يتسابَق الناسُ في هذهِ الدُنيا مِن أَجلِ حَياةٍ وَقتيَّة. وَلكلٍّ مِنّا أَعمالُه الخاصَّةِ وأهدافُه وطُرُقُه. هُناكَ مَن يَحِدُّ حياتَه بأمورِ هذا العالَم المنظورِ والفاني. وهناكَ مَن يَعتقِدُ بِوُجودِ حياةٍ أبديَّة، وَيَعتَرفُ بالمسيح، وَلكنَّه يَضَعُ لذاتِه مَقاييسَ خاصَّةٍ لِتحقيقِ مَآرِبه، غَيرَ آبِهٍ إذا كانَت مستقيمَة أَم لا. فالغايَةُ عِندَه تُبَرِّرُ الوَسيلة. يُقيمُ نَفسَهُ حاكِمًا وَمُشَرِّعًا.

هناكَ مَن يَفصلُ بينَ حياتِه الروحيَّة والتي على الأرض، معتقِدًا أنَّ اللهَ في سماواتِه والإنسانَ على الأرضِ و"الشاطِر بشطارتهِ"! وهناكَ مَن لا يهتَمُّ بالحياةِ الروحيَّة؛ وهناكَ مَن يناهِضُها؛ ولكِن هُناكَ مَن يَعشقُ المسيح، ويحاوِلُ أن يعيشَ حياتَه مِن خِلالِه، إكليريكيًّا كانَ أَم مِن العَوام. وهناكَ طَبعًا اعتقاداتٌ أُخرى مُختَلفَة.

إلى جانِبِ عَمّا يؤمنُ بِه كلُّ واحِدٍ مِنّا ويعتَقِد؛ فالجميعُ على رَأيٍ واحِد: يأتي الإنسانُ مَرَّةً واحِدَةً إِلى هذهِ الحَياة.

يقولُ الرّبُّ يَسوع: "فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا"، (مت 16: 25). قد يكونُ قَولُه صَعبًا جِدًّا. وقد تزدادُ الصُعوبَةُ في الآيةِ التي تَليها: "لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ"؟.

أَسئلةٌ كثيرةٌ تُطرَحُ في هذا الصَّدَد: تُرى ما الذي يَطلبُه المسيحُ مِنّا، أَهُوَ عذابٌ وشقاءٌ أَم راحَةٌ وفَرَح؟ ماذا يَعني قولُهُ لنا مَن يَهلِكُ نَفسَه مِن أَجلِهِ يَجِدُها–بِمِعنى يَربَحُها؟ ولماذا هذا الارتباطُ بينَ ربحِ العالَم وخسارَةِ النَفس؟ أَلا يجوزُ الرِبحُ في الإثنينِ مَعًا؟ أَلا يَحرمُنا هذا مِن مَلذّاتٍ كَثيرة؟.

تكمنُ الأجوبَة حَصرًا في مَعرفَةِ الرّبِّ يسوعَ المسيحِ، وَمِن ثُمَّ في تَذَوُّقِ ما يُعطيهِ يسوعُ مِن حَلاوَة، وَسلامٍ داخليّ، واتِّزان، واستِنارَة، وإِشباعٍ للنَّفس، وتَعزيَة، وقُوَّة، وَنِعَم، وثِمارٍ كَثيرةٍ لا تُحصى.

لا يُعطينا العالَمُ شيئًا مِن كلِّ ذلك فحسب، بل قد يعطينا مساوِئ تُدمِّرنا دَمارًا يَعجزُ اللسانُ عن وصفِه، والعَقلُ عن تَخَيُّلِه. والخدعةُ الأكبر هيَ أَنَّ المَساوِئ تَحصلُ تَحتَ عناوينَ طَنّانَةٍ ورَنّانَة، مِثلَ الحُريَّة والتَطوُّر واحترامِ الآخَر. بينما هي في الحقيقةِ استعبادٌ وتَخَلّف.

لا يَخفى على أَحد، أنَّ الجهادَ الذي يقومُ به كلُّ مَن يأخذُ كلامَ الرّبِّ طَريقًا لَه ودستورًا، هوَ جهادٌ كبير. وَسِرُّ نَجاحِهِ هو المثابَرَة. هذا يجعلُ مِنَ المجاهِدِ قَامَةً مُمتلئَةً مِن النُّورِ تجذبُ إليها كَثيرين. فَيصيرَ مَحَجَّةَ راحَةٍ لكلِّ مُتعَب، على مِثالِ مُعَلّمِه وَسيِّدِه وربِّه يَسوع.

إنَّ حياةَ القدّيسينَ وسيرتَهم، لَحقيقةٌ دامِغَة وَتأكيدٌ عَلى الثِمارِ الإِلهيَّة. مِمّا لا شَكَّ فيهِ أنَّها تأتي بَعدَ صَلَوات، وسَجدات، وَتنقِيَةٍ للنَّفس، وتوبَةٍ واعتراف، والتصاقٍ بالرّبّ. إِنَّهم بِقوَّة إلهِنا قَد تَغلّبوا على كلِّ مَلَلٍ وِكَلَلٍ وَتهاوُنٍ وتَجربَة، وَقَطعوا باستقامَةٍ كلمَةَ حَقِّ الرَّبِّ في كلِّ شَيء، صَغيرًا كان أَم كَبيرًا. فَأَضحوا لنا المِثالَ والقُدوَةَ في عَيشِ ما آمنوا به وعَلَّموه.

أعودُ بالذاكرَة إلى لِقاءٍ جَمَعني، منذُ أكثرَ مِن عَشرِ سَنوات، بشخصٍ يَتَقَدَّمُني بِالعُمرِ عشرينَ سَنةً تَقريبًا. يَملكُ في دَارَتِه مَكتبةً قَيِّمَة. دارَ حديثُنا حَولَ المعرفةِ والثقافةِ وأهميَّةِ العِلمِ والآدابِ والفَلسفَةِ وغَيرها. وسألتُه خِلالَ الحديثِ عَن حياةِ القدّيسين، فأجابَني بِما لَم أَتَوقَّعُه البَتَّة. قال لي بكلِّ ثقةٍ: "لا تَستَهويني سِيَرُ القدّيسينَ لأَنَّني لا أُحبُّ قَهرَ النَّفس"!

ولمّا رأى ملامِحَ الاستغرابِ على وجهي، أردَف قائِلًا: " لَقد حُورِبَ القدّيسونَ، واضطُهِدوا مِن داخلِ كنيسَتِهم، فَذاقوا المُرَّ؛ وَقد قَسَوا عَلى أنفسِهم كَثيرًا، وحَرموا ذواتِهم مِن أَبسطِ أمورِ الحَياة. فَيا لَها مِن قَداسة"!.

لقَد كان واضِحًا لي أنَّه لَم يَكن يريدُ أَن يسمعَ أَيَّ رَأيٍ مُخالِفٍ لمِا يَعتَقِدُه. فَما كانَ مِنّي إِلّا أَن أَنهيتُ الحديثَ سائِلًا نَفسي: ما الفائدةُ مِن كلِّ مَكتَبتهِ إِن كانَ هذا هوَ اعتقادُه!؟ إِنَّها حَقًا حِبرٌ عَلى وَرقٍ دونَ روح، أَو بالأحرى "الرّوح".

أعودُ إلى ذِكرِ الأسماءِ في صَلاةِ السَحَر. إِنَّها خسارَةٌ كبيرَةٌ إِن عِشنا على هامشِ الحَياةِ معتَقدينَ بِأنَّنا أَحياءٌ، وًلكنَّنا في الحقيقَةِ أمواتٌ دُونَ المسيح! فينتَهيَ بنا الأَمرُ اسمًا بينَ أسماءٍ كثيرة، نَرجو أَن يَذكُرَنا أحدُهُم على مَذبحِ الرّبِّ القُدّوس.

فِعلًا ما أَرهبَ تِلكَ اللحظَة، حينَ يقومُ الكاهِنُ بِذِكرِ الأسماءِ المُدوَّنَةِ لَدَيه! إنَّه يَذكُرُها بِكُلِّ وَقارٍ وَيَقظَة ومَسؤولِيَّة.

تَخيَّلوا لَو أنَّ كلَّ صاحبِ اسمٍ يكونُ حاضِرًا بالجَسدِ أمامَ الكاهِنِ عِندَ ذِكرِه لَه، لَكانَت قافِلَةٌ كبيرةٌ مِن الناسِ تَقفُ في صَفٍّ يَصلُ إلى خارِجِ الكَنيسَة.

في الحَقيقةِ هَذا ما نحنُ مَدعوونَ إِلَيه، أَن نمشي قُدُمًا في طَريقِ الملَكوت.

حياتُنا عَلى الأَرضِ فِرصَة قَداسَة، تَبدأُ بِتَوبَة عَميقَةٍ وَشِفاءٍ مِن ضُعُفاتِنا.

إِلى الرَّبِّ نَطلُب.