في السادس من شهر تمّوز من العام ١٩٢٣، أبصر جورج متري خضر النور في منطقة الميناء في طرابلس. مئة عام بلغها من عمر أنطاكية الحديثة، التي قامت على أكتاف القدّيسين أمثال أغناطيوس الأنطاكي، ومكسيموس المعترف، ويوحنا الذهبي الفم، وكوكبة من آباء الكنيسة الذين "اعتقدوا بجوهر واحد وطبيعة واحدة، للآب والابن والروح القدس"، فغرف خضر من معينهم روح النهضة، التي ما زالت مستمرّة إلى يومنا هذا.

عاش ​جورج خضر​ وجع كنيسته منذ نعومة أظفاره، فانتفض مع مجموعة من أترابه على الجهل الدينيّ الواقع بين أبناء كنيسته، وما تعانيه من ترهّل في التعليم ونشر الكلمة والمعرفة والثقافة الدينيّة.

وعى خضر أهميّة الكنوز الكنسيّة المخفيّة، فجاءت انتفاضته ومجموعة من الشباب، المندفع والمحب والغيور على كنيسته، لتقول نعم للمعرفة والتعمّق والفهم لتعاليم هذه الكنيسة، التي كانت وما زالت وستبقى على استقامتها في حفظ الكلمة والوفاء للعقائد التي رسّختها المجامع المسكونية عبر التاريخ.

انتفاضة جورج خضر وصحبه جاءت لتدعو جميع أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة إلى نهضة دينيّة أخلاقيّة ثقافيّة واجتماعيّة، وذلك من خلال اتّباع الفروض الدينيّة ومعرفة تعاليم الكنيسة، فسعى مع أخوته، الذين أسسوا حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في السادس عشر من شهر آذار من العام ١٩٤٢، إلى نشر تلك التعاليم وتقوية الإيمان المسيحي في الشعب.

يقول المطران خضر عن الحركة إنّها "إحياء للإنجيل، وغرسه، وعدم الاكتفاء بالعبادات ترجمة وحيدة للحياة الروحيّة، ولكن الذهاب إلى الأصول، إلى المناهل… ما كنّا حركة تمرّد على الإكليروس، بل حركة توعية للجميع. منها انطلقت الرهبنات، ومجلّة النور، ومنشورات النور… كنّا مقتنعين بأنّ كنيستنا الأرثوذكسيّة هي كنيسة التراث، المخْلِصة للألفيّة الأولى، والقادرة تاليًا بتراثها هذا وبمجد ليتورجيّتها، أن تحيا من جديد".

محبّة جورج خضر للعلم وللمعرفة حملته إلى إيجاد ثقافة أرثوذكسيّة تستوحي عناصرها من روح الكنيسة، ولذلك اقتحم مع أترابه المكتبات الدينيّة، ونفضوا الغبار عن الكتب الكنسيّة والتعليميّة وسيِر القدّيسين، وإلى اطلاق حملة واسعة على صعيد النشر، لتصبح التعاليم الكنسيّة الأرثوذكسيّة في متناول جميع أبناء هذه الكنيسة.

عاش جورج خضر منذ مطلع شبابه همّ "الأخ الصغير" الذي يُحبّه يسوع، فكان العمل الإجتماعي وجهَته، وزرع فينا هذا التوجّه. ولطالما كان يردد على مسامعنا "أن الفقراء سادتنا".

إحترمه المسلم كما المسيحيّ من مختلف الأطياف، واحترموا رأيه وفكره وفلسفته ونهجه وصلابة رأيه وعدم مساوامته على العقيدة والفكر الرسولي والآبائي. هذا الاحترام ناتج عن رفض جورج خضر واستنكاره للتعصّب الطائفي البغيض، وفهموا من خلال تعامله مع كافة المواطنين، أن الأرثوذكسيّة، التي شرب من نبعها الشيء الكثير، هي كنيسة وليست طائفة، يجيد المنتمون إليها خلق روابط أخويّة مع سائر الكنائس المسيحيّة، ومع أبناء الوطن.

بعد كل هذا الجهاد، ماذا أقول لك اليوم، يا سيد الكلمة، وأنت أتممت قرنًا من العمر، أنت يا معلّمي وملهمي وضميري، أنت الذي منحتني نعمة الكهنوت، وأرشدتني إلى الطريق التي من خلالها، أكون خادمًا لشعب الله، لا سيدًا عليهم، أنت يا من علّمتنا أن الكهنوت رسالة لا وظيفة، وأن الكاهن هو ممر لله في العالم، يختفي هو ليظهر نور المسيح. أنت الذي لم يتقاعس يومًا عن استقبال كهنته عند كل شدّة وأزمة، فكنت خيرَ داعمٍ لهم، وحاضنهم، وموجّهًا إياهم للخروج من سقطاتهم. أنت الذي شجّعت وآزرت وأطلقت المواهب في أبرشيتك، وحضنتها ووثقت بأحباء كثر، فعلّمتنا أن التسامح والغفران نعمة من الله، أنت كل ذلك لأنك جورج خضر، عاشق الله، ليتنا نتمثّل به.

ردّد دائمًا أن "الله محبّة". عاش هذه المحبّة وزرعها في نفوس أبنائه، فجعل من هذه الأبرشيّة قدوة في النهضة الروحيّة والعمرانيّة، واستقطبت شباب الكنيسة وشيبها، وجعلنا واحدًا بالرغم من ترامي هذه الأبرشية وتباعد الرعايا الجغرافي عن بعضها البعض.

إنه جورج خضر الذي يليق به قول المزامير: "فَيَتَجَدَّدُ مِثْلَ النَّسْرِ شَبَابُكِ" (مزمور 103: 5). إنه أحد أعمدة الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة الحديثة وركيزتها. إنه جورج خضر الذي سمع الله صوت أدعية محبّيه، فاستجاب لهم، وأطال عمره ليعيش قرنًا كاملًا، ويبدأ بالمئوية الثانية، ليبقى مثلًا ومثالًا لنا في محبة المسيح. إنه ذاك الأسقف الذي امتلك من الحكمة والفهم ومخافة الله، آيات وعجائب كثيرة، ترجمها في كل مَن تتلمذ على يديه. إنّه اللاهوتي الحديث الذي زوّد أنطاكيا وأغنى مكتبتها الكنسية بمجموعة كبيرة من العظات والتعاليم والكتب والإنتاج الفكري الغزير، إنه جورج خضر الأسقف الذي سعى لكي يكون دومًا على ملء قامة المسيح، رغم كل الضعفات، وهو الذي حمل شعار: "لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد" (اعمال الرسل ١٧: ٢٨). إنّه جورج خضر عاشق الله بامتياز، فدمت لنا يا سيدي.

نشكر الله على مَن يرعاك اليوم في شيخوختك، رعاية الابن لأبيه. نشكر الله على خير خلف، صاحب السيادة المطران سلوان موسي الجزيل الاحترام، راعي أبرشية جبل لبنان الحالي، الذي استلم عصا الرعاية بأمانة من يدك، وها هو اليوم يتزود من مجالسته لك الكثير من النعَم. وسيادته لم يترك مناسبة إلا واستشهد بكلمات وتوجيهات المطران جورج، وزوّدنا بها.

في عيدك المئة، لا يسعني إلا الدعاء إليك يا سيد الكلمة والبلاغة، وسيد المنابر، بأن تكون سنوك عديدة ومديدة بالقداسة، وتبقى معنا وفيما بيننا بَركة وأيقونة حيّة، نستلهم منها لأجل خير الكنيسة والإنسان.