تستمرّ الحرب التي تُشنّ لقضم ودائع الناس بالقوّة، وآخرها يحمل عنوان "اقتراح قانون يرمي إلى حماية الودائع المصرفيّة المشروعة واعادتها إلى أصحابها"، لكن لدى البحث في طيّات هذا القانون، يتبيّن أنّه عملياً اقتراح هجين يجمع في طيّاته لعددٍ من الاقتراحات التي قدمت سابقاً، بين خطّة الحكومة وخطّة الهيئات الاقتصاديّة وبعض الأفكار التي عبر عنها رئيس حكومة تصريف الأعمال، متوجهاً بالنهاية إلى تحرير المصارف وربط علاقة المودع مع الدولة مباشرة. وهنا تكمن خطورته لا سيما أنه ارتكز على المادة ١١٣، المتناقضة تماما مع الأحكام والأساس القانوني لحكم الوديعة.
أول من أمس، سلّم رئيس مجلس شورى الدولة القاضي فادي الياس لرئيس مجلس النواب نبيه بري مشروع اقتراح القانون والأسباب الموجبة له. ويشرح المحامي والمتخصص بالرقابة القضائية على المصارف الدكتور باسكال ضاهر، عبر "النشرة"، أن "التفرقة بين الودائع بدأت مع هذا الاقتراح من حيث العنوان، فهو يفرق بين ودائع مشروعة وغير مشروعة، ويفرض التمييز أيضاً بين مال "فريش" و"قديم"، وهنا نطرح التساؤل من له الصفة بتحديد المشروعيّة من عدمها؟ الا يوجد في لبنان قوانين تسمح للهيئات الناظمة ممارسة دورها؟ ولماذا الان طرح هذه الاشكاليّة؟ وماذا يضمن تفعيلها بشكل موثوق وعدم جعلها سببا لطمس الحقوق كما يحصل راهناً؟".
"لَيْلَرَة" الودائع
أما لناحية الأسباب الموجبة، فرأى ضاهر أنّها تتناقض مع مواد هذا الاقتراح بشكل كلّي، لا سيما مع أحكام الباب الثالث بعنوان "في حقوق ومساهمات المودعين"، لأنه فرّق ما بين الأموال والودائع وفرض "الهيركات" و"الليلرة"، أو سمح بالتسديد بالليرة وقام "بالهيركات" على الودائع التي اعتبرها غير مؤهّلة، لافتاً إلى أنه "يُقصد بالودائع غير المؤهّلة، بحسب هذا الاقتراح الهجين، تلك التي تحوّلت من الليرة إلى الدولار بعد 17 تشرين الأول 2019 على سعر 1507.5، كذلك الشيكات المشتراة بقصد المضاربة"، ويتساءل ضاهر "أين حقوق المودعين لناحية أنّه أجرى هذا المودع عقد صرافة مع المصرف، الّذي ربح من جرّاء ذلك، وأين مسؤوليّة المصرف التاجر المحترف؟ وهنا أرخى القانون بثقل الأزمة على عاتق المودع، معتبراً ايّاه مستثمرًا خلافاً للأحكام القانونيّة، مع العلم أنّ هذه المعادلة هي عينها ما صرّح به رئيس الحكومة! وأكثر من ذلك فإن السؤال هنا يبقى عن الودائع التي حوّلها المصرف على سعر 15000 ليرة مثلا، لماذا لم يأتِ على ذكرها، فهل تعتبر، وفق واضع الاقتراح، غير مؤهلة أيضاً"؟.
"هذه الودائع ستدفع بالليرة بأقلّ من قيمتها الفعلية بـ50%، هذا عدا عن 50% "هيركات" يتحمّلها المودع ولمدة 15 عاماً"، هذا ما يؤكّده الدكتور ضاهر، لافتاً إلى أنه "بخصوص الودائع المؤهّلة فهي تسدّد بالدولار أو بالليرة وفق سعر السوق، وبالتالي فقد عدّل هذا الاقتراح العقد ما بين المصرف والمودع و"ليْلَرَ" العقد، أو شرّع التسديد بالليرة بصورة قانونيّة ضمن فترة 15 عاماً، دون تحديد المدّة الزمنيّة لبدء التسديد، وكذلك أعطى لمصرف لبنان الحقّ بتحديد قيمة الدفعات".
استعادة فوائد المودعين
الأفظع من هذا كلّه أنّ القانون تناول أيضاً ردّ الفوائد التي استحصل عليها المودعون منذ العام 2015، إذ تشير المادّة الثلاثين من الباب الثالث بعنوان في حقوق ومساهمات المودعين إلى أنّه يعاد احتساب قيمة الفوائد على الودائع التي هي بالعملات الأجنبيّة بعد عام 2015 وفقاً لأسعار الفائدة التي كانت محدّدة عالمياً على هذه العملات لغاية تاريخ اقفال الحساب العائدة له الوديعة. ويحسم فائض الفوائد من حسابات المودع... فماذا يعني ذلك؟ يعني ببساطة، بحسب الدكتور ضاهر، أن "كل الفوائد التي استفاد منها المودعون منذ العام 2015 سيحسمها المصرف من أساس الوديعة، ما يعني أن المصرف يستعيد الفوائد التي دُفِعت للناس، لافتاً في نفس الوقت إلى أنّه "في حال بدأ المصرف يستعيد عافيته تدريجياً بشكل ضيّق، تُدفع الودائع، خلال ثلاث سنوات، من تاريخ غير معروف يحدّده مصرف لبنان".
كذلك فقد حرر هذا الاقتراح المصارف بأنّه ألزمها بردّ ما هرّبته، لكن مع وصف ما ستيعده بمال "فريش" محرّر من أيّ قيد، بدلاً من أن يستعمل ما تدفّق للبدء بتسديد حقوق المودعين...
دور هيئة التحقيق الخاصّة
أيضاً تحدّث اقتراح القانون عن دور لهيئة التحقيق الخاصّة، في التدقيق في مصادر الحسابات لدى المصارف واجراء تحقيقات في العمليّات التي تشتبه بأنّها تشكل جرائم تبييض أموال بصورة تلقائيّة، وتعتبر مجمّدة المبالغ الواردة في الحسابات المصرفيّة التي تقرّر هيئة التحقيق الخاصّة بأنها يشتبه باخفائها تبييض أموال، إلى هنا يعتبر هذا النص انشاء باللغة العربية لأنّه كرّر المُكرّر، انما الخطير هو ربطه تجميد مال المودع لحين البت بصحة مصادرها من قبل محكمة الدرجة الأولى في بيروت، بناء لمراجعة يقدّمها صاحب العلاقة المودع، وهنا فانّ الحكم الصادر عن هذه المحكمة لا يقبل أيّ طريق من طرق الطعن العاديّة أو غير العاديّة، أي اعتبر القرار نهائياً. هنا يلفت الدكتور ضاهر إلى أنه "بالمقابل سمح للمصارف التي ارتكبت أن تمارس حقّها بالطعن في إجراءات لجان الرقابة كاملة، أيّ في البداية والاستئناف والتمييز".
هيئة مستقلة واصول الدولة؟
ويضيف ضاهر: "هذا القانون جمع لعدد من الأفكار بموضوع الصناديق واقترح إنشاء هيئة مستقلّة لادارة أصول الدولة وناقض نفسه، إذ سمح للدولة بالقيام بالشراكة بين القطاعين العام والخاص الذي سيعطي للمرتكبين اعادة مدّ اليد إلى أصول الدولة"، مشيراً إلى أنّ "هذه الهيئة المستقلّة تتناقض بأسلوب الشراكة بين القطاعين العام والخاص"، لافتاً إلى أن "الأخطر من ذلك أن الصندوق المخصص للمودعين سيوضع فيه محصّلات ونسب غير مفهومة، تتأتّى عن الاستثمار بعائدات لن تتحقّق، مثل النفط والغاز والأملاك البحريّة ومخالفات البناء... كما أنه سيتم وضع المحصلات، حال ورودها، بحساب في مصرف لبنان يدفع فيه للمصارف، تستلمهم دورياً انما تردّ للمودع حسب ما ترتئيه ضمن فترة 15 عاماً، أيّ أن هذا الحساب في حال تغذيته ستتغذّى منه المصارف، ولكن ليس محدّداً منذ متى يبدأ رد أموال المودعين، وفي النهاية يتمّ اعتبار هذا الحساب من ضمن الاحتياطي الالزامي"، وهنا يؤكّد ضاهر أنّ "الاحتياطي بحسب قانون النقد هو مال مخصّص الأهداف وهو بالليرة، وبالتالي يتناقض مع ما طرحه اقتراح القانون الحالي بمفهومه، ما ينم عن ضعف بعلم قانون النقد والتسليف".
ويلفت إلى أنّ هذا الاقتراح "طلب من المصارف، التي إستفادت من الهندسات الماليّة، أن تعيد المبالغ التي استوفتها إلى الخارج في مهلة أقصاها سنة، وألزم الدولة أن تردّ قيمة الضرائب التي دفعت على الودائع". في حين يلفت ضاهر إلى أن الاقتراح عينه "الزم المودع بأن يحسم منه الفوائد دون أن يتمّ رد الضرائب".
إذاً من الواضح، من خلال تفصيل الشرح بهذا القانون، أن واضعه هو فعلياً طرف مع المصارف ضد استعادة المودعين لحقوقهم، والواضح أيضاً، من خلال التقدّم به، أنّ الحرب التي تخوضها المصارف لتحميل الخسائر للمودعين ووضع يدها على أصول الدولة لم تنتهِ، بل هذه فقط نقطة واحدة من فصولها!.