الأيقونَةُ صَفحةٌ ملكوتيَّةٌ في حياةِ المؤمنِ المَسيحيّ، وذلكَ لأَنَّها تَضعُ أمامَنا الرّبَ يسوعَ المسيح، أو والدَةَ الإله، أو ملاك، أو وَجهَ قدّيس مُتألّه (أو قدّيسة)، أو عجيبَةً ما قد حَصلت، أو حَدَثًا بيبلِيًّا مِن العَهد القديمِ كانَ أو مِن العهد الجديد.

هذه الأيقونةُ لإِيليّا النبيّ تنقُلُنا إلى ثلاثةِ أحداثٍ قَد حَصلت في العهدِ القَديم وهِي: صعودُ إيليّا بمركبَة مِن نار؛ رَمي إيليّا رداءَه إلى تلميذه إليشَع النبيّ؛ شقُّ النبيّ إليشع نهر الأردنّ برداءِ إيليّا.

قَبلَ الغَوص في ما تُمثِّلُه الأيقونة، لا بدَّ لنا أن نكونَ في إلفَة مَع الكتابِ المقدَّس. أوّلًا لأنَّه كتاب الكنيسة، وثانيًا لما فيه مِن فائدة روحيَّة لكلِّ مؤمِن، كما يقول بولسُ الرسول: "كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ" (2 تي 3: 16).

عَودَة إلى ما تُمثِّلُه الأيقونة. لقَد سبَقَ صعود إيليّا في المركبةِ الناريَّة، "أن أخَذَ إِيلِيَّا رِدَاءَهُ، وَلَفَّهُ وَضَرَبَ نهر الأردن، فَانْفَلَقَ إِلَى نصفَين، فَعَبَرَ مع إليشع فِي الْيَبَسِ." (2 ملوك 8:2).

إيليّا هوَ الشخصُ الثالثُ بعد موسى النبيِّ ويشوعَ بنِ نون الذي قامَ بعجيبَة شقِّ المياه وعُبورها مِن ضفّة إلى ضفّة.

في المَرَّة الأولى عَبَرَ موسى النبيُّ البحرَ الأحمرَ مع الشَعبِ العِبريّ، وقد رافَقَهم الرّبُّ بِعَمودِ النّارِ والسَّحاب. وغرَّقَ جيشَ فرعونَ، الذي كان يَتبعُهُم، في المياه بعدَ أن أَغلَقها عليهم. فكانَ هذا العبورُ صورةً مسبقَةً عن القيامَةِ المَجيدَةٍ وانهزامِ الشَيطان، كما نُرتِّل في الليتورجيّة[1]: إنَّه عبورٌ مِن الموتِ إلى الحياة.

في العبورِ الثاني مع يشوعَ بنِ نون، تقدَّمَ الكهنَةُ والشعبُ حاملينَ تابوتَ العَهد الذي يَحوي وصايا الله. فَسارَ الشعبُ خلفَ شريعةِ الرّبِّ وعَبَروا. كيفَ لا والرّبُّ هو طريقُنا وخَلاصُنا. فكلُّ انحرافٍ يُؤدّي بنا إلى الهاوِيَة لا مَحالة.

العبورُ الثالثُ تَمَّ مع إيليّا النبيِّ الذي ضَربَ نهرَ الأردنِّ وشَطَرَه وعَبَرَه آخِذًا معه تلميذَه إليشَع فَقط. لأنَّ ما سيحصلُ مع إيليّا لا يُبصِرُه إلّا إنسانٌ روحِيٌّ.

حَمَلَ العبورُ الثالثُ مِعنى التَلمَذة والأمانَة في استمراريَّة حملِ الرسالَة والمحافَظَة عَليها. لهذا أخذَ إيليّا تلميذَه معه وأعطاه، أثناءَ صعودِه، رداءَه النبيذيّ الذي يُشيرُ لَونُه إلى مَجدِ الرّب.

فَبعدَ صعودِ إيليّا ضَربَ إليشع النهرَ برداءِ الأوّل واجتازَه راجعًا. هذا ما نراهُ في القِسم السُفليِّ في يمين الأيقونَة. وهَذهِ علامةٌ واضحةٌ على أنَّه تلميذُه الأمين. كما أنَّ هذا الأمرَ يُثبتُ جَلِيًّا شَفاعَةَ القِدّيسين. نَعم حتّى لِباسَ القدّيسين ومقتنياتِهم تُغلّفُها النعمةُ الإلهيَّة. أَلَيسَ هذا ما يَحصلُ على مَرِّ العُصور؟.

هنا لا بُدَّ لنا مِن التَوقُّف أمامَ ما طَلَبَه إليشعُ مِن إيليّا قبلَ صعودِ الأخير: «لِيَكُنْ نَصِيبُ اثْنَيْنِ مِنْ رُوحِكَ عَلَيَّ» فأجابه إيليّا: «صَعَّبْتَ السُّؤَالَ. فَإِنْ رَأَيْتَنِي أُوخَذُ مِنْكَ يَكُونُ لَكَ كَذلِكَ، وَإِلاَّ فَلاَ يَكُونُ». (2 ملوك 9:2-10). ما معنى هذا الحوار؟.

يَرثُ الابنُ البِكرُ مِن والدِه، بحسبِ الشريعَة اليهوديَّة، "نصيبَ اثْنَيْنِ مِنْ كُلِّ مَا يُوجَدُ عِنْدَهُ."، (تَثنِيَة 17:21). بِهذا يكونُ إليشَع قَد اعتبر نفسَه ابن إيليّا البِكر، الروحيّ طَبعًا. لكنَّه لم يَطلبْ أيَّ شيءٍ أرضيٍّ بَل سَماوِيّ. لقد طَلبَ نِعَمًا إلهيّةً مضاعَفَة. فأتاهُ جوابُ إيليّا بِغايَة الأهمِيَّة: "إِنْ رَأَيْتَنِي"، أيّ إِن أبصرتَني روحِيًّا، وبِمعنى آخَر، إِن اكتَملَ نُموُّكَ الروحيّ، تَحصلُ على طَلَبِك.

ما أجملَ هذا الكلام، وما أعظَمَ المسؤوليَّة المُلقاة على كَتفِ الأبِ الروحيّ في إسداءِ المسؤوليّات لأولادِه الرّوحيّين، وَحُسن اختيارِه لهم وِفقَ جهادِهم الروحيِّ ومَواهبِهم، وليسَ وِفقَ حساباتٍ أرضيَّةٍ وشَخصيَّةٍ. إضافَة إلى ذَلك، قَولُ إيليّا: "صَعَّبْتَ السُّؤَالَ"، هو تأكيدٌ على أنَّ الأمرَ مَنوطٌ باللهِ مُوزِّعِ النِعَمِ وَليسَ بإيليّا. هَذا قِمَّةُ التواضع!.

ما وَردَ مِن شَرحٍ أعلاه يُؤكِّد عَلى أنَّ قراءَةَ ما تَعرضُه الأيقونَةُ ليسَ مَحصورًا بما هو مُصوَّرٌ عليها فَقط، فهناكَ أحداثٌ مُترابِطَة، ويَتَطلَّبُ الأمرُ معرفَةَ الكتاب المقدَّس وفَهمَه فَهمًا صَحيحًا ومستقيمًا بالروح القُدس، وعَيشَ حياةٍ روحيَّة. فالأيقونَةُ غير منفصِلَة عن هذه الأمور إطلاقًا.

المركَبةُ في هذه الأيقونةِ تَجرُّها الخيولُ نَحوَ السَّماء، تَلُفُّها الغيومُ البيضاء علامَة على حضورِ الله. تمامًا كما كان يَحصلُ مع موسى النبيِّ عندما كانَ ينزلُ اللهُ ليلتَقِيَهُ في خَيمَة الاجتماع. وأيضًا تشير هذه الغيومُ إلى العاصفَةِ التي أَصعدَت إيليّا في المَركبة.

يَلُفُّ النبيَّ إيليا نارٌ إشارَةً إلى قَلبهِ المُشتَعل بمحبَّةِ الله، وغَيرَتِهِ على بيتِ الربّ. لونُ ثيابِه أخضَر دلالَة على الحياةِ الجديدةِ بالرّوحِ القُدس.

إنَّ لَونَ الأحصنةِ نبيذيّ. لأَنَّ المَركَبةَ كلَّها مشتعلَة بالنَّار الإلهيَّة التي تُنيرُ ولا تُحرِق. تَمامًا كما حصلَ مع العلَّيقَة المشتعلَة غيرِ المحتَرِقَةِ التي تكلَّم اللهُ منها مع موسى النبيّ (خروج 3). إنَّه حَدَثٌ إلهيٌّ بامتياز.

خلفيَّةُ الأيقونَةِ نورانيَّة. فَهذا يُشيرُ إلى ملكوتِ الرّبِّ النقيِّ والساطِع. كما أنه يَرمُزُ إلى نورِ اللهِ الذي يُشرقُ علينا. مهما كانَتِ الظروفُ والصِعاب، فَهوَ لا يَتَخلّى عنّا أبَدًا.

لا يمكننا خَتمُ المقالة قَبل أن نقولَ مع إيليّا النبيّ، مِن عُمقِ القلب: "حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي أَنَا وَاقِفٌ أَمَامَهُ".

هذا الرّبُّ هو يسوعُ المسيحُ إلهُنا العظيم. فَكلُّ ما حدَثَ في العهدِ القديم كانَ تَحضيرًا لِما تَمَّمَهُ الربُّ بِتَجَسُّدِه وَصَلبِهِ وقِيامَتِه وصعودِه إلى السَماواتِ في العَهدِ الجَديد.

خلاصَة، إذا كان إيليّا قَد صَعدَ كما إلى السماء، فالرّبُّ يسوعُ صعدَ إلى السماء، لأنَّه نَزلَ مِنها، كما قال لنيقوديموس في (يوحنا 13:3). لقد نزلَ إلينا ليُصعِدَنا مَعه، شَرط أن نتوبَ عن خطايانا توبةً صادِقَة، وتَشتَعلَ قلوبُنا بالنارِ الإِلَهيَّة. هَذهِ هِي مَركبَتُنا إلى السماء.

إلى الرّبِّ نَطلُب.

[1]. أنَّ موسى لمّا رَسَم الصليب ضَرب بالعَصا مستويَة فشقَّ البحرَ الأحمر وأجازَ إسرائيلَ ماشِيًا ولمّا ضَربَه مخالفًا ضَمَّه على فرعونَ ومَركباتِه مُمَثِّلًا بِصراحَةٍ السلاحَ غيرَ المَقهور. لذلكَ نسَبِّحُ المسيحَ إلهَنا لأنَّه قد تَمَجَّد. (كاطافاسِيّات الصليب).