قرأت منذ فترة مقالًا للأب رامي ونّوس، كاهن رعية كنيسة القدّيس جاورجيوس في برمانا، تحت عنوان "ميناء الخلاص"، يصف فيه، وبتأثر وجدانيّ كبير، ما طبعت به زيارته لمنطقة الميناء في طرابلس. وأشار قائلًا: "لو علم القيّمون على هذا البلد قيمة هذه الأزقّة، لصارت الميناء الوجهة الأولى للسيّاح".

تحمّست لزيارة "المينا"، الإسم الشائع لهذه الناحية، وتحمّس معي الإخوة أعضاء حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في الرعايا التي أخدمها، الذين سارعوا ورتّبوا لهم رحلة إلى مدينة طرابلس، لتكون منطقة الميناء مسك ختام هذه الرحلة.

دخلنا مدينة طرابلس من قلعتها الأثريّة والمهمّة، حيث تزوّدنا بشرحٍ مفصّل عن تاريخ هذه القلعة والحقبات التي مرّت عليها، لنخرج بانطباع كبير عن عظمة التاريخ وعمقه، والحجارة تشهد على ذلك.

قلعة طرابلس، والمعروفة باسم قلعة "سان جيل"، واحدةٌ من سلسلة حصونٍ وأبراجٍ كانت في الأزمنة الغابرة تُحيط بالقبّة والبلدة والميناء. من هذا الموقع سرحت عيوننا على كافّة أنحاء مدينة عاصمة الشمال، التي تعاني أكثر من غيرها من المناطق اللبنانية، وتلمس عوزهم إلى الكثير من الخدمات، بشرًا وحجرًا. لكن هذا الواقع لا يحجب عظمة أهل هذه المدينة الطيّبين والمتواضعين والمحبّين. هذا لمسناه لمس اليد، خلال تجوالنا في الشوارع والأزقّة الداخلية، لنتعرّف على بعض الكنائس الأثريّة، في منطقة الزاهرية، والمعروفة بشارع الكنائس.

كنيسة القدّيس نيقولاوس الأثريّة كانت أولى الكنائس التي حجّينا إليها، إنها تحفّة فنيّة وروحيّة. حدّثنا الأب ابراهيم دربلي بحب وشغف عن تاريخ هذه الكنيسة، التي لم يمسّها سوء طوال الحرب اللبنانية، ولتاريخه. الأسلوب الذي حدّثنا به، الأب دربلي عن كنيسة القدّيس نيقولاس، هو نفسه واكبنا به في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس، حيث تشهد على عظمة كاتدرائيّة لعبت دورا قياديًا في التاريخ الأرثوذكسي الحديث.

عند وصولنا إلى منطقة الميناء، فهمت ما أشار إليه الأب ونّوس عن هذه المنطقة، ولدى دخولنا إلى كنيسة القدّيس جاورجيوس الأثرية، انتصبت أمامي كلماته: "لا يمكن أن يخطر على بال إنسان أن يعكس خارج هذه الكنيسة داخلها. تعتقد للوهلة الأولى أنّك أمام كنيسة على أحد شواطئ اليونان مطليّة بالأبيض وقببها زرقاء. بمجرّد دخولك إلى باحة الكنيسة تتفاجأ بهذا التضاد بين الخارج والداخل. فورًا تشعر أنّك تدخل إلى واحة روحيّة تعزلك عن صخب العالم. دخلنا إلى الكنيسة، ودخلت الكنيسة فينا..."

بعد أن استفاض كاهن الرعية الأب ميخائيل الدبس بشرح تاريخ هذه الكنيسة، ومن بعد زيارتنا المغارة التاريخية في جوفها، كان لنا أن نتزوّد بطعام جسدي، بعد أن تزوّدنا طعامّا روحيًا، فذقنا الطيّبات الطرابلسيّة البسيطة في أحد المطاعم المجاورة للكنيسة، شاكرين وممنونين للأخ فؤاد الصوري، أحد مسؤولي حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في الميناء، الذي رافقنا وأرشدنا وزوّدنا بمعلومات قيّمة، ساهمت في نجاح هذه الرحلة.

انطلقنا بعدها في رحلة بحّرية إلى الجزر المتواضعه التي تبعد حوالي نصف ساعة عن شاطئ الميناء. فلم تعد هذه الجزر بالنسبة لي، ولكافة المشاركين في رحلتنا، مجرّد اسم قرأنا عنه في الكتب.

لن أدخل في ما شهدناه من أمور مجحفة في حق هذه المدينة وشعبها، الذين يتغاضى المسؤولون عنهم، إنّما أودّ الإشارة إلى أنّ طرابلس مدينة تستحق الكثير من الاهتمام، فشعبها على مختلف أديانه طيّب ومتعلّق بمدينته. ومسيحيّو طرابلس يختبرون يوميًّا العيش المشترك، ويجاهدون بقوة الإيمان، ليكونوا شهودًا لمسيحهم، حاملين راية الإيمان والرجاء والمحبّة.

تركنا تلك المنطقة، وفهمنا لماذا جعل الله قلبَ الإنسان ناحية الشمال.