لم يكن يتخيّل المرء ان بلداً وصل الى حد الإنهيار السياسي والمالي ان يصمد، ويحاول النهوض مجدّداً. انه لبنان الذي يثبت انه عصيّ على الموت. قد تكون هي طبيعة اللبنانيين التي تتفوّق على الصعاب، وتحوّل النكبة الى وسيلة حياة. ويعود الفضل الأساسي فيها الى المغتربين الذين لم يقطعوا تواصلهم مع بلدهم، من خلال التحويلات المالية، والزيارات التي فاقت التوقعات، فأنعشت لبنان في موسم صيفي عامر.

يمكن لأي مراقب ان يرصد حركة المطار، والمطاعم، والفنادق، والمجمّعات السياحية، ان يلاحظ ان لبنان استعاد عافيته، رغم الألم الذي تعاني منه العملة الوطنية، التي استبدل معظم التعامل بها بالدولار الاميركي.

واذا كان الشغور في موقع رئاسة الجمهورية أربك اللبنانيين التواقين لإنتظام الحياة السياسية في بلدهم، وينتظرون نتائج الوساطة الفرنسية، فإن الحكومة استطاعت عبر تصريف الاعمال ان تُبقي هيكل الدولة قائماً وتمنع الانهيار الكامل.

لم يكن لمجلس الوزراء ان يحافظ على بنية الدولة اللبنانية لولا رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الذي تحمّل المسؤولية، وثبّت دوره: أنا هنا.

بالسياسة، جرى تنظيم الحملات ضد ميقاتي تحت عناوين عدّة، وتُرك يواجه الهجمات التي تعرض لها منذ تولى رئاسة الحكومة، لكنه لم يكتف بالصمود، بل ثابر وتقدّم على قاعدة ان المسؤولية السياسية تتحمّلها القوى التي لم تنتخب رئيساً للجمهورية.

هناك من كان ينتظر من ميقاتي الهروب من المسؤولية، او اعلان الاستسلام وتلبية الشروط السياسية من هنا وهناك، خصوصاً ان قوى رسمت سيناريوهات فشله في ظل عجز الدولة المالي، وعدم اكتراث العالم العربي بلبنان، وانتقاد المجتمع الدولي للقوى السياسية اللبنانية.

لكن ميقاتي غامر بتحمّل المسؤولية الوطنية عبر ترؤس حكومة يغيب عن جلساتها وزراء احتجاجاً على "السلوك في مرحلة تصريف الأعمال"، فلم يترنّح او يتراجع او يستقل من دوره، وحافظ على موقع رئاسة مجلس الوزراء اولاً، وهيكلية الدولة ثانياً.

يمكن هنا الاستناد الى ملف حاكمية مصرف لبنان كنموذج، حيث بقي رئيس الحكومة يبحث ويدوّر الزوايا لمنع الفراغ في حاكمية المصرف، مروراً بمحاولة تعيين حاكم جديد، وصولاً الى تحضير مشروع قانون لتأمين قانونية الصرف المالي في المرحلة المقبلة.

ليتخيّل اللبنانيون ان المصرف المركزي فقد دوره، أو نشاطه المطلوب في ادارة الشأن المالي. لن يقتصر الوضع حينها على مزيد من انهيار سعر العملة الوطنية، بل كان سيطال كل جوانب الحياة في لبنان: رواتب، تحويلات المؤسسات والشركات الخاصة، ومتطلبات القطاعات المتنوعة.

يكفي ان يتعمّق اللبنانيون بواقع نمو البلد ٤٪؜، في حصيلة قابلة للارتفاع، للتأكيد على ان البلد قادر على النهوض، عبر صمود مؤسساته بدءاً من رئاسة الحكومة الى كامل قطاعات الدولة.

صحيح ان الازمة اللبنانية قائمة، لكن متابعة ملفات التنقيب عن الغاز، والحصول على النفط من العراق لزوم قطاع الكهرباء، وتأمين الحد الادنى من سبل الحياة، كافية للدلالة على الاشادة بدور حكومة تصريف الاعمال التي قبل رئيسها ووزراؤها على تحمل المسؤولية في اصعب الظروف.

ومن هنا، فإن هذه المرحلة تثبّت ادوار السياسيين الذين يؤدّون ادوارهم، فلم يقتصر نشاطهم على نظريات، ومعارضة، وبيانات، وانتقادات تخرج عن الأُطر البناءة.

لن يستطيع ميقاتي ان يقف بعد الآن جانباً، لأن جمهوراً لبنانياً واسعاً، إنطلاقاً من بيئته، سيقوم بعملية مراجعة لتفاصيل مرحلة صعبة جداً، وسيتمسك به في اي مرحلة آتية.