النورُ حياةٌ والظلمةُ موت. هذه ليست مَقولة روحيّة فحسب، بل وقاعِدة عِلمِيّة. فالكنيسةُ تُعلن في دستور إيمانها أنَّ المسيحَ نورٌ من نور. وهذا ما قاله القدّيسُ يوحنا الإنجيلي عن الإله المتجسّد، الربِّ يسوع المسيح: "فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ"(يوحنا 4:1).

صحيح أن النُّور فرح ولكنّه في الوقت نفسه دينونة. وهذا تحديدًا ما حذّرنا الرّب منه قائلًا: "وَهذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً"(يوحنا 19:3).

إذًا "الفاحِصُ القلوبِ والكِلى" منتصبٌ أمامنا في كلّ حين، وهو الكاشِف أعمالنا بامتياز ولا شيء يَغفل عنه. وما علينا إلّا التقدّم نحو هذا النُّور للامتلاء منه. هذا إذا أردنا فعلًا محوَ كلّ ظلمة فينا.

إنّ كلامَنا على النُّور يأتي بمناسبة عيد التجلّي. دَرَجت العادةُ شَعبيًّا أن يدعى عيد الرّب. هذا كلامٌ لا غبار عليه، لأنَّ في هذا العيد المجيد كشفَ يسوع عن طبيعتِه الإلهيّة أمام ثلاثة مِن تلاميذه.

بعد تجلّي الربّ يسوع على قِمَّة جبل ثابور، نزل مِن الجبل ليتابع صعوده إلى أورشليم، ليُصلب ويموت في طبيعته البشريّة ويقومَ مِن بين الأموات بقوّةِ طبيعته الإلهيّة، لنصبحَ به أناسًا قياميّين.

إنَّ النور الإلهي الذي ظهر فيه الربُّ يسوع لم يحرمنا أيضًا منه. لقد سمح أن يستنير به كلُّ مَن يجاهد الجهاد الحقّ، ومَن يصلّي صلاة القلب، وينكر ذاته ويحمل صليبه ويتبعه على الدرب، درب الطريق المستقيم، فيذوق طعم الملكوت مِن الآن.

يدعونا الرَّب اليوم لنصعد معه حتى نعاينَ نورَه. ولكنَّه لن يتجلّى هذه المرّة على قِمَّة جبل ثابور، بل على الصليب الذي هو قِمَّةُ التواضع.

فلا عجب أن ترتّل الكنيسة في عيد التجلّي كاطافاسيّات الصليب (قطع صلاة) وذلك لسببين:

الأوَّل، يأتي عيد التجلّي قبل عيد رفع الصليب الكريم المحيي بأربعين يومًا. ورقم أربعين يُذكّرنا بالأربعين سنة التي قضاها الشعبُ العبرانيُّ قديمًا في الصحراء، وبالصوم الأربعينيّ.

الثاني، لا خروج مِن الظلمة إلى النُّور إلّا بعد أن نموتَ عن ذواتنا، ونخلعَ لباسَ الخطيئة، ونتعَرّى منها بالكليّة، كما كان الإنسان الأوّل قبل السقوط، وقبل أن يستمعَ إلى إبليسِ عدوِّ الإنسان.

هنا بالذات تكمن مفارقةٌ مهمّةٌ جدًّا في حدث التَّجلّي الإلهي. فالذي قاله الله الآب يتَطابق مع ما قالَه في معموديَّة يسوع لحظة خروجه مِن المياه: "هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ"، لكن مع زيادة مهمَّة جدًا، وهي: "لَهُ اسْمَعُوا".

مع هذه الإضافة نكون قد وصلنا إلى لُبِّ الخلاص: السَّماع للرّب.

السَماعُ يعني الإصغاء الكامل، والعمل بما يوصي به الرَّبّ. وخَيرُ معلِّمٍ لحُسن الإصغاء هو والدة الإله التي قالت للملاك الذي أتى وبشّرَها بالحَبَلِ الإلهيّ: "هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ"(لوقا 38:1).

إنَّ كلمة "أَمَة"، كما أتت في الإنجيل بلغَّته اليونانيّة التي كُتب فيها، هي δούλος / Zoulos بمعنى "عبد". وهذا أيضًا ما قاله بولس الرّسول عن نفسه: " بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الْمَدْعُوُّ رَسُولًا، الْمُفْرَزُ لإِنْجِيلِ اللهِ"(رومية 1:1).

إنَّ كلمةَ "عبد" تصدُمنا، فكيف يمكن أن نكون عبيدًا وقد خَلَقنا اللهُ أحرارًا على صورته ومثالِه، ويريدُ منّا أن نقبله مُخَلِّصًا بملء حرّيتنا؟.

إنَّ والدةَ الإله قد قَبِلَت الحبلَ الإلهيَّ بحريَّةٍ كاملة وإرادَةٍ كاملة. كذلك علَّم بولسُ الرسول قائلًا: "حَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ"(2 كو 3: 17).

هل مِن تَضادّ هنا؟ لا إطلاقًا! لأنَّ كلمةَ "عبد" بالمفهومِ الإلهيِّ تختلفُ تمامَ الاختلافِ عن مفهومِها الدنيويِّ الذي يحملُ فيها مِعنى التَسلُّط والاستعباد. وذلك لأنَّ اللهَ محبَّة ولا يمكِنُ للمحبَّة أن تَفرضَ نفسَها على الآخرين.

فالمقصودُ بكلمةِ "عبد للرَّبِّ" إذًا أَلّا يكون الإنسانُ واقعًا تحتَ نيرِ الخطيئَة المُتَسلِّطَة، السالِبَة لحريَّةِ الفَردِ والقاضِيَة على إرادَتِه، والتي تُكَبِّلُه بقيودِ الشِرير، الذي يُبعِدُهُ عن الرَّبِّ يسوعَ المخلِّص.

هذا ما مِعناه أنَّنا بِعَدَمِ إصغائنا إلى الرَّبِّ نَسقُطُ سقوطًا مُريعًا فَنخسرَ سلامَهُ ونِعَمَه، وندخُلُ في دوّامَة الضجيج التي تَنتزِعُ مِن نفوسِنا سلامَنا الداخليّ. فنصبحَ بالتالي كَمَن يسلكُ في الظلمة، في الطريقِ الوَعرَة. فلا نعودُ نرى كيف نتجنَّب المَطبّات ونَنجو منها. فَتكثُر فينا الاضطراباتِ، ونَنتَقلُ مِن تشويشٍ إلى آخر أفظَعَ منهُ ومُضَلِّل.

مِن هنا يُشَدِّدُ اللاهوتُ الشرقيُّ، وتحديدًا ما يُعرَفُ بالهدوئيّة Hesychasme، على أن نمارسَ الصلاةَ القلبيَّة. إنَّ خبرَةَ القدّيسين في هذا المجال كبيرةٌ جِدًا، وقد علَّمَ القدّيسُ غريغوريوس بالاماس، على سبيلِ المِثال وليسَ الحَصر، كيف ينحدرُ النورُ الإلهيُّ على المُصلّي وينيرُه، ويُنعِمُ عليه بغبطَة سماويَّة ليست مِن هذا العالَم. هذا هو التألّهُ بنورِ الرّبّ.

كذلك جيّد أن نعرف أن كلمةَ "تجلّي" Metamorphosis ، هي كلمةٌ يونانيَّة تُشيرُ إلى ما هوَ أَبعدَ مِنَ الشَكلِ ومِن كلِّ ما هو منظورٌ ومحدود. فَكما أنَّ يسوعَ قَد أَظهَرَ لتلاميذه ما هوَ أَبعَد مِن هيئَتِه الخارجيَّة، كذلك دعانا أن نَسعى إلى ما هو أبعَد بكثيرٍ مِن هذهِ الحياة الدَهرِيَّة الفانِيَة والتُرابِيَّة.

خلاصة، هذهِ هي المسيحيَّةُ وهذا هُو العيد. أن نَتجلّى بنورِ الرَّبِّ الذي يَنحدرُ علينا مِن لَدُنِه. هذا إذا لم نَتَعلَّقْ بالشَكلِ الخارجِيِّ وبالأمورِ السَطحيَّة في هذه الحياة، لا بل ذهَبنا إلى العُمق، إلى جَوهرِ الوجودِ والحياة، وسَعَينا بِجِدٍّ إلى اكتشافِ ملكوتِ اللهِ فينا بمحبَّةٍ وتَوبَةٍ وتَواضُع.

يقولُ الإنجيلُ إنَّ يسوعَ قد "تَغيَّرت هيئتُه" قدّامَ تلاميذِه في حَدَثِ التَجلّي (متى 2:17)، "وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ".

هكَذا نحنُ عندما نُغَيِّرُ سلوكَنا ونعودُ إلى الربِّ تائبينَ إلَيه. فنَستنيرُ بنورِه القُدّوس. أنَّ كلَّ حياتِنا هي محاولةُ تَغيير إلى النٌّورِ والابتعادُ عن الظُلمَة، لتكونَ مِسكُ خواتِمِ حياتِنا نورًا.

فإن أَتينا باكرًا إلى سَحَرِ عيدِ التَجلّي مع اندثارِ الليلِ وشُروقِ الشَمس، لَسمِعنا هذهِ الترنيمة: "أيُّها المسيحُ لمّا لَبِستَ آدمَ بجملتِه، غَيَّرتَ الطبيعةَ التي أُظلِمَت قَديمًا، وجَعلتَها لامِعَةً، وأَلَّهتَها بتَغيير صورَتِك".

هذا ما نحنُ مَدعُوونَ إليه.

إلى الرَّبِّ نطلُب.