نأتي إليها بصمت، ونصلِّي معها بصمت. ونكتشف عشقها لخالقها وربِّها بصمت. هي تعمل بصمت، وهذا الصمت يُدعى الصمت الإلهيَّ.

لقد أدركت مريم وهي على الأرض أنَّ لغة الدهر الآتي هي الصمت. فصمتَ فيها كلُّ شيء غريب عن الله، وارتفع في قلبها صوتُ التسبيح الإلهيِّ، فاستحقَّت أن تُطوَّب مِن جميع الأجيال كما قالت في نشيدها.

هذا تمامًا ما يُعلنه الكاهن في صلاة السحر مِن على الباب الملوكيِّ، منحنيًا أمام أيقونتها الموقَّرة معلنًا: "لوالدة الإله وأمِّ النور بالتسابيح نكرِّم معظِّمين".

التسبيح الأحبُّ على والدة الإله، إعلانُنا أنَّ الربَّ يسوع المسيح هو إلهنا الوحيد ومخلِّصنا الوحيد. وقد أوصتنا أن نفعل كلَّ ما يطلبه منَّا. وكانت هي المثال الحيَّ في ذلك. وعليها أوَّلًا يُطبَّق ما قاله الربُّ عندما مدحته امرأة قائلة: "طوبى للبطن الَّذي حملك، والثديَيْن اللذين رضِعتَهما" (لو11/ 27)، فأجابها يسوع: "بل طوبى للَّذين يسمعون كلام الله ويحفظونه" (لو11/ 28).

فهل مَن يسبق والدة الإله في ذلك؟ بالطبع لا. ونتيجة سماعها لكلام الربِّ، وعيشه باتِّضاع كامل، وعدم طلب أيِّ شيء لنفسها، تجسَّد الربُّ منها، كما أنشدت: "لأَنَّ القدير صنع بي عظائم، واسمه قدُّوس" (لو1/ 49).

هذه هي العظائم كلُّها، لا بل أعظم العظائم، وهي أن يتجسَّد الإنجيل فينا قولًا وعملًا، فنحمله في تصرُّفاتنا وسلوكنا وصلواتنا وتوبتنا، ونبشِّر الآخرين به، بصمت داخليٍّ مملوء بالسلام، وقوَّة احتمال لجميع الصعاب الَّتي تواجهُنا وتعاكسُنا، مدركين أنَّ طريق الإنجيل ليست سهلة ولكنَّها ليست مستحيلة. وها العذراء أمامنا، مِن جنسنا ومثلنا تمامًا، احتملت كلَّ المشقَّات، بدءًا مِن حبلها الإلهيِّ، إذ كان يمكن أن تُرجَمَ، إلى الولادة في المغارة، ومِن ثمَّ ترحالها إلى مصر كيلا يطال طفلَها بطشُ هيرودس، والعودة إلى الناصرة، إلى إدراكها لمؤامرات اليهود ضدَّ يسوع، إلى مشاهدتها صلب ابنها، بالإضافة إلى أمور أخرى لم تُذكر في النصوص الإنجيليَّة.

رحلتها الشاقَّة الَّتي بدأت منذ اللحظة الأولى الَّتي قالت فيها "نعم" للملاك جبرائيل، تكلَّلت بمشاهدة ابنها وخالقها قائمًا مِن بين الأموات ومنتصرًا على الشرِّير.

صمتُها سرٌّ كبير لا يستطيع إنسان وصفه مهما أبدع، لأنَّه عشقٌ إلهيٌّ وتسليم. فهي لو رجعت بالذاكرة في حياتها، لقالت كما وصفها القدِّيس يوسف الدمشقيُّ ومدحَها: "حقًّا عجيب الربُّ، فأنا ابنة العاقر، أصبحتُ أمَّ الحياة، وبقيتُ بتولًا. في أحشائي المخلوقة اتَّحدت الطبيعةُ الإلهيَّة بالطبيعة البشريَّة، وتمَّ التجسُّد الإلهيُّ، وسعت أحشائي الخالقَ الَّذي لا تسعُه السموات". ولأكمَلَت: "أرضعتُ مِن ثدييَّ لبنًا مَن يُطعم العالم أجمع. حملتُ على ذراعيَّ مَن يحمل الكون بأسره. ضممتُ على صدري مَن يضمُّ التائبين إلى صدره ويشفيهم. أجلستُ في حضني مَن يشفي الأسقام ويفتح عيون العميان. ألبستُ ثيابًا مَن يُحيي الأموات ويعطيهم الحياة الأبديَّة. تألَّمتُ مع جابلي، وطُعِنْتُ مع خالقي، وقمتُ مع مخلِّصي، فلم يُدركْني الفسادُ ولم يبقَ جسدي الطاهر في التراب. ماذا عساي أقول بعد؟ لا أجد كلمات تترجم ما أشعر به وأحياه من نِعم، وما أراه وما ألمسه".

نعم، سيرة حياة مريم وكلُّ ما حصل معها، يُبكم الجميع، ويجعلهم عاجزين عن التفوُّه بأيَّة كلمة. وما أجمل ما يرتِّله الكاهن في مديح والدة الإله، وهو يقف في وسط الكنيسة أمام أيقونتها الموقَّرة: "لمَّا شاهَدَكِ رئيسُ الملائكة العظيمُ يا نقيَّة، أنَّكِ مصحَفٌ للمسيح متنفِّسٌ مختومٌ بالروح، هتفَ نحوك قائلاً: إفرحي يا مسكن الفرح والسرور. يا من بها تنحلُّ لعنةُ الأمِّ الأولى".

حقًّا إنَّ كلَّ هذا يفوق المنطق البشريَّ، ولا يمكن لأيِّ عقل أن يفسِّره. لكنَّنا بالمقابل، نعي ثماره. أهمُّها ولادة الربِّ يسوع المسيح منها. الإله الَّذي أصبح إنسانًا مثلنا وبقي إلهًا. سرٌّ يفوق الإدراك، لكنَّه كمال المحبَّة، لأنَّه ليس أعظم مِن هذا التنازل الإلهيِّ، ليرتفع الإنسان.

الحياة مع والدة الإله كلُّها عيد وبهجة، وتعزية وفرح. أربعة أعياد كبيرة تُقام في السنة لوالدة الإله، لكنَّها في الحقيقة مرتبطة ومنبثقة مِن الَّذي وُلِدَ منها أي يسوع.

فنعيِّد لميلادها في 8 أيلول، لأنَّها ستصبح والدة الإله، كما أنَّ اليوم الثامن هو يوم الخليقة الجديدة الَّذي افتتحه الربُّ بقيامته، كأنَّنا بذلك نفتتح سنتنا الكنسيَّة الَّتي تبتدئ بالأوَّل مِن شهر أيلول بأن نكون خليقة جديدة، لنُنهي سنتها برُقادها وانتقالها إلى الحياة الأبديَّة.

كذلك عيد دخولها إلى الهيكل في 21 تشرين الثاني، هو استباق للهيكل الحقيقيِّ الَّذي هو الربُّ. فهي ستكون أمَّ الهيكل غير الحجريِّ. وعيد بشارتها في 25 آذار، بشارة الملاك جبرائيل بصيرورة الخالق إنسانًا. فهذا الحدث رأس خلاصنا وإعلان السرِّ الَّذي منذ الدهور. وهو الحدث المحوريُّ لخلاص البشريَّة جمعاء.

أمَّا عيد رقادها في 15 آب فهو اللاموت، بل التنعُّم بالحياة الأبديَّة مع الربِّ إن جاهدنا بصدق وتبنا عن حقّ. الأعياد الأربعة خلاصيَّة بامتياز.

لهذا، كلُّ مرَّة نقف فيها أمام أيقونتها الهادية والمرشدة، نراها تدعونا للاتِّحاد بمن تحمله على ذراعها، وتشير بيدها الأخرى إليه، فهي لا تنفكُّ تحدِّق به، لأنَّه النُّور، وهي ملتحفة بالنُّور.

وإن حاولنا وصفها لقلنا: "وجهك يا والدة الإله أبهى مِن كلِّ جمال، هو نقيٌّ وطاهر، وفي الوقت نفسه رصين، لأنَّ الحدث الإلهيَّ الَّذي تحملينه عظيم".

فليس أجمل مِن كلمات طروباريَّة عيد ميلادك لنعيِّدك بها: "ميلادك يا والدة الإله، بشَّر بالفرح كلَّ المسكونة، لأنَّه منكِ أشرقَ شمسُ العدل المسيحُ إلهُنا، فحلَّ اللعنة ووهبَ البركة، وأبطلَ الموت ومنحنا الحياة الأبديَّة".

إلى الربِّ نطلب.