لعلَّ عيدُ ارتفاعِ الصليب المقدَّس الذي تعيِّدُ له الكنيسةُ في الرابع عشر من أيلول هو محطَّة سنويَّة نغوصُ فيها لنتأملَ بسرِّ الصليب المقدس، الذي عُلِّقَ عليه يسوعُ المسيح مخلِّصُ العالم، وقد أصبحت هذه الخشبةُ جِسرَ عبورٍ من الموت إلى الحياة الأبديَّة بالمسيح المنتصر على الموت، وعلامة خلاص نغوص فيها لنكتشفَ حبَّ الله للإنسان -ما من حبٍّ أعظم من أن بيذلَ الإنسان نفسه في سبيل مَن يحب. (يو ١٥: ١٣)- على وقعِ هذا الكلام يصعبُ علينا كبشرٍ تنفيذ وصيَّة الربِّ لنا، لأنَّنا نحملُ في أجسادِنا ضعفَ بشريَّتِنا وشراسةَ أفكارٍ تأخذنا إمَّا إلى عالم الأنانية وإمَّا إلى عالم التقوقع؛ ولعلَّ هذه الافكار هي التي تبعدنا عن فهم سرِّ الصليب، أي سرّ الحب الذي نكتشفه في حياتنا اليوميَّة. إذًا لا بدَّ من الصليب في حياة المسيحي لأنه يدلُّ عليه؛ فالصليب حلو وطيب لمَن يحمله بتواضعِ القلب وانسحاقِ الروح؛ من هنا نفهم في حياتنا قيمة الآلام "لأَنَّ آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا" (روم ٨).

هنا يعيش الانسان المؤمنُ الآلامَ وأنظارُه صوبَ الملكوت السماوي موطن الله.

لقد ردَّد الطوباوي أبونا يعقوب الكبوشي: "يا صليب الرب يا حبيب القلب" لأنَّه عرفَ بأنَّ الصليبَ هو شعلةُ حبٍّ لا تنطفِئ. في الصليب نقرأ ونفهم كيف أحبَّنا الله وكيف يجبُ علينا أن نحبَّ الله بدورِنا. إنَّ حمل الصليب والسيرَ وراءَ يسوع هو مصدرُ السعادة الحقيقية. هذه السعادة تكمنُ في فهم سر الصليب إذ "إِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ" (١كو ١: ١٨) وهذه القوة يستمدُّها المؤمن من الرب الذي يحبنا حتى النهاية، والذي هو بدوره يعلِّمنا معنى الحياة وبأنَّ مَن يحمل الصليبَ بفرحٍ ينالُ فرحَ السماء، ومن هنا ربما يطرح هذا السؤال، هل الصليب هو فقط للآلام والموت وتحمّل الصعاب ومشقات هذه الحياة الفانية، أم هناك أبعادُ أعمَق ومختلِفة؟... يأتي الجواب من صُلبِ المحبة التي تجلَّت على الصليب بيسوع المسيح الذي احتمل من أجلنا الآلام والموت .

.وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ" (يو ١٢: ٣).

فلنقرأ كتاب حياتنا اليوميَّة على هامش صليب الرب، ولنتذكَّر دومًا بأنَّ الحبَّ أقوى من الموت والرب يسوع أظهر لنا حبَّه هذا بمَوتِه على الصليب وبكلِّ ما رافق الصلب من عذابات صعبة ومضنية، ولعلَّنا نعيش هذا الصليب يوميًّا في حياتنا، فإذا لم نقرأ هذه الاختبارات المؤلمة على ضوء صليب المسيح نكون في حالة فراغ في النفس والروح حيث يسيطر عليهما الخوف والضعف والقنوط، وتضيع المحبة في النفوس التي خلقت لتكون مسكنًا لله.

نحن نفتخر بهذا الصليب لأنَّ الرب انتصر به على الموت وأصبح الصليب مفخرةَ كل مسيحي، وأما من جهتي فحاشا لي أن أفتخرَ إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صُلب العالم لي وأنا للعالم.

نعم إنَّ الصليب كتاب نتعلم فيه جوهر حياتنا المسيحية لنكون رسل سلام في قلب العالم، ولكي نعرفَ أنَّ هذا الصليب الذي نعيِّدُ له هو خلاص كل مسيحي مؤمن .

ولعلَّ هذا العيد يُعيد فينا وإلينا الأمل والرجاء بوطننا الذي يرزح تحت ثقل الصليب منذ زمن وقد أرهقه بسبب بعدنا عن الجوهر وتشرذمنا وعدم أمانتنا لهذه الأرض، للبنان، قلب الله...

فلنقرأ الصليب ولنصلِّ له ليحميَنا ويحمي وطننا الحبيب لبنان فيكونَ جسرَ عبورٍ إلى الخلاص، فالحياة...

*مدير المعهد الفني الانطوني الدكوانة