خلافًا لما كان متوقّعًا، لم تكن الزيارة الثالثة للموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت "ثابتة"، عملاً بالمقولة الشائعة "الثالثة ثابتة"، فلا هو نجح في تحقيق "الخرق" الذي كان يصبو إليه، عبر جمع مختلف الأفرقاء على طاولة حوار، تمهّد للتفاهم على انتخاب رئيس للجمهورية، بما يضع حدًا للشغور الرئاسي المتفاقم، ولا أعلن الانكفاء والانسحاب، بما يعني "فشل" المبادرة الفرنسية، وسحبها من التداول بشكل نهائي.

على العكس من ذلك، بدا أنّ الزيارة، وإن لم تفضِ إلى أيّ نتيجة تُذكَر، بعيدًا عن "تبنّي" الجانب الفرنسي لمبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري الحوارية، بما يدحض الأقاويل عن "تضارب وصدام" بين الجانبين، أعادت "خلط الأوراق"، وهو ما يفسّر إيحاء الفرنسيّين باستكمال لمبادرتهم، عبر زيارة رابعة سيقوم بها وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، ويدعو فيها الأفرقاء إلى اجتماع في قصر الصنوبر، استكمالاً لمباحثاته.

ومع أنّ الزيارة لم تطوِ صفحة المبادرة الفرنسية، التي يؤكد المعنيّون أنّها لا تزال قائمة، ولو اتجهت الأنظار إلى الحراك القطري المرتقب في الأيام المقبلة، مع استعداد الدوحة لتسلّم زمام المبادرة، إلا أنّها كرّست وفق العارفين، انتهاء "الصيغة القديمة" القائمة على "المقايضة"، بل إنّ تسريباتٍ نسبت إلى لودريان تأكيده "طيّ صفحة" ترشيح رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، ومعه المرشح المقابل الوزير السابق جهاد أزعور.

فهل مثل هذا الاستنتاج يبدو في مكانه، بمعنى أنّ "صفحة" ترشيح فرنجية قد طويت، ولا سيما في ضوء "الرسائل" التي يوجّهها "حزب الله" إلى القاصي والداني، والتي يؤكد من خلالها "انفتاحه" على كلّ السيناريوهات والخيارات، ولو بقي متمسّكًا في العلن بمرشحه فرنجية؟ وهل تخلّى الحزب فعليًا عن ترشيح فرنجية، وهو ما يفسّر اللقاء الذي عقده رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد معه، بعد لقاء جمعه بقائد الجيش سابقًا؟!.

في المبدأ، قد يكون وفق ما يؤكد العارفون، أنّ زيارة لودريان، وإن لم تطابق التوقعات والتقديرات بشكل كامل، إلا أنّها لم تُحدِث في الوقت نفسه أيّ "خرق" في المشهد العام، إذ إنّ المواقف المُعلَنة بقيت على حالها، في ظلّ انقسام واضح بين معسكر "حزب الله" وحلفائه الداعي إلى الحوار والتفاهم، وخصومه الرافضين لأيّ تشاور قبل انتخاب الرئيس، في موقف يخرقه بعض المستقلّين الذين يبدون "قابلية" للذهاب إلى الحوار.

لعلّ الجديد في الأمر أنّ لودريان الذي لم يبدُ أنّ لديه "المونة الكافة" على المعارضين لإقناعهم بالجلوس على طاولة الحوار، على الرغم من "الضمانات الشخصية" التي قدّمها لهم، والتي لم يُعرَف ما إذا كانت دقيقة وواقعية، هو أنه سمع الاعتراضات بوضوح، فأحزاب المعارضة الرئيسية، وفي مقدّمها "القوات" و"الكتائب"، أكّدت له بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّها ستقاطع أيّ صيغة حوارية، بوصفها "تضييعًا للوقت ولعبًا بالدستور".

لكنّ فشل لودريان في إقناع هؤلاء بالذهاب إلى الحوار لم يُفضِ إلى إعلان "الفشل" كما قدّر كثيرون، ممّن توقّعوا أن تكون زيارة موفد الرئيس إيمانويل ماكرون "وداعية" ليس إلا، بل إنّ أسهم "الحوار بمن حضر" هي التي ارتفعت، خصوصًا مع "مرونة" رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل، علمًا أنّ الحوار ولو لم يكن مشروطًا، قد يكرّس الانتقال إلى ضفّة أخرى، لا وجود فيها لمرشّحي المرحلة السابقة.

في هذا السياق، يقول العارفون إنّ ما بعد زيارة لودريان لن يكون كما قبلها، ولو أظهرت الوقائع أنّ أيّ تغيير لم يحدث بموجبها، مشيرين إلى أنّ التموضع الفرنسي بات "أقرب من أيّ وقت مضى" إلى جانب السعودي، وهو ما تجلّى في اللقاء الذي عقد في دارة السفير السعودي وليد البخاري، بحضور الموفد الفرنسي، والذي بدا مساندًا لحوار يفضي إلى "تسوية" قد يكون "بطلها" قائد الجيش العماد جوزيف عون، أو غيره.

ويرى كثيرون أنّ "حزب الله" ليس بعيدًا عن جوّ هذه التسوية، بل قد يكون في صلبها، وهو ما فُهِم من اللقاء الذي جمع بين رعد وعون في الآونة الأخيرة، ولو أوحت بعض الأوساط القريبة من الحزب إنّه "ضُخّم وحُمّل أكثر ممّا يحتمل"، بل ذهبت لحدّ وضعه في خانة "الصدفة الاجتماعية" ليس إلا، في اجتهاد يرفضه محسوبون على الحزب في المقابل، ممّن يذكّرون بأنّ "لا وجود للصدفة" في قاموس "حزب الله" وأدبيّاته.

وفيما يؤكد هؤلاء أنّ "حزب الله" لا يزال متمسّكًا بترشيح فرنجية، وأنّه لن يتخلّى عنه، إذا لم ينسحب الأخير من السباق "طوعًا"، يشيرون إلى أنّ الحزب أراد من خلال هذا اللقاء توجيه رسائل في مختلف الاتجاهات، وقد وصل أغلبها إلى المعنيّين، منها "انفتاحه" على بحث كلّ الخيارات والسيناريوهات، ولو أنّ ذلك يفرض على الآخرين "التواضع"، وقبول الجلوس معه على طاولة الحوار، بعيدًا عن نظرية "تفضيل" الفراغ ولو لأشهر وسنوات.

ومع أنّ هناك من فهم "رسالة" الحزب من لقاء رعد وعون في اتجاه مضاد، وتحديدًا محاولة "ضغط" على رئيس "التيار الوطني الحر"، لحسم موقفه من ترشيح فرنجية، ومنع المضيّ في أيّ نوع من المناورة أو المماطلة، يقول العارفون إنّ كلّ الاحتمالات باتت واردة بالنسبة إلى "الحزب"، وهو ما يفسّر اللقاء الذي عقد بين رعد وفرنجية، الذي أتى "ملحقًا" باللقاء الأول، خصوصًا في ظلّ "الانكفاء الطوعي" لفرنجية بانتظار تبلور الصورة.

في النتيجة، الثابت أنّ زيارة لودريان لم تكن "ثابتة" كما كان متوقّعًا، ولم تغيّر في الوقائع على الأرض، بل كرّست الانقسام السياسي بين فريقين يرفضان مجرّد "التلاقي" في سبيل "التقاطع"، ولو بحدّه الأدنى. لكنّ الثابت أيضًا، أنّها قد تفتح الأفق أمام سيناريوهات جديدة يمكن البناء عليها، من بينها حوار بمن حضر، قد يزيد المشهد تعقيدًا، ولكن أيضًا "تسوية" قد يكون أوانها اقترب أكثر من أيّ وقت مضى!.