لبنانُ إرتِقاءُ ذاتِهِ، التي مِنها أشرَقَ الروحُ غَمراً يُحاوِرُ الشُطآنَ والكُثبانَ المُحيطَةَ بِهِ، وَهي مُنكَفِئَةٌ خَلفَ أسوارِها، مُتَبَلبِلَةٌ في وِحشَةِ كآبَتِها. هيَ الى رَحيلِها الداخِلِيِّ. وَهوَ أبَداً الى كِثارِ نَبضِهِ. يَشُقُّ المَدى بِحَرفٍ إبتَكَرَتهُ عاصِمَتُهُ الروحِيَّةُ بيبلوسَ لِكُلِّ لِسانٍ وَشَفَّةٍ لِيُحَلِّقَ بِهِ في كُلِّ مَدىً يَتَرامى دُهوراً وَبَشَراً. هُمُ يَتَنادونَ، وَهوَ يَنزِعُ عَنهُمُ الأَغلالَ الَتي يَنصُبوها لِذَواتِهِمِ. لِمَ؟ لأَنَّهُمُ مِن أعماقِهِمِ ما نَصَبوا إلَّا ظُلُماتٍ. وَهوَ في ظُلُماتِهِمِ خَلَقَ أنوَراً مِن روحِهِ.

بَينَ الحَرفِ وَتَجريدِ التَلاقِيَ بالكَلِمَةِ المُبتَكَرَةِ مِنهُ، أعلى لبنانُ الروحَ، والروحُ الَذي مُنذُ البَدءِ كانَ كَلِمَةً لا حُجُبُ هوَ بَل الحُبَّ. والحُبُّ جَوهَرُ التَوقِ، الساكِنِ في الحَقيقَةِ الَتي وَحدَها تَؤوبُ بالبَشَرِ الى هَدأةِ مأوى القِمَمِ.

غَيرَ أنَّ لبنانَ الجَريءَ تَرصُدُهُ بابِلُ الكُثبانِ والشُطآنِ مَعاً. هيَ تيهٌ ما بَعدَهُ تيهٌ إبتَكَرَهُ الإنفِرادُ والتَفَرُّدُ، فَخَالَ نَفسَهُ ألوهَةُ وَسَرَقَ مِن لبنانَ إسمَ الإلَهِ: إيلَ، وَعَمَّدَ ذاتَهُ بِهِ: بابُ-إيلَ. بابِلَ. البابُ المُقفَلُ لِتلاقيَ أنفاسِ الأرضِ. لا روحَ فِيهِ لِيَحيا. وَمِن قَلَقِهِ على ذاتِهِ، يَفنى في حِراسَةِ ذاتِهِ خِلسَةً، وَخِلسَةً بالسَوطِ او المِنجَلِ يُدمي بِهَدهَداتِهِ كُلَّ خاصِيَّةٍ. أيَقتُلُ كُلَّ شَغَفٍ بِزَغَب أشواكِهِ؟ بَل وَيَمشي في جِنازَتِهِ، وَقَد تَرَوَّضَ على إنهِيَاراتِ القُبورِ يَبنيها لِلأحياءِ.

بَينَ لبنانَ وَبابِلَ تَرَصُّدٌ، قُلتُ. هوِ الدِرعُ بِوَجهِ زَوالِ الفَراداتِ. وَذاكَ البابُ يُغدِقُ العارَ ثِمارَ مُحَرَّماتٍ. شَراهَتُهُ بَغضاءُ، وَبَغضَاؤهُ مَذَلَّاتُ تَخويفٍ يُبَدِّدُها الدُمارُ في قَبَضاتِ الرَهبَةِ.

بَينَ لبنانَ وَبابِلَ مَيدانُ مَعارِكَ. وَلبنانُ يَعرِفُ أنَّ بابِلَ كُلِّ العُصورِ مَتى إبتَغَت قَتلَهُ، ما عَلَيها تَدميرَهُ فَحَسبَ، بَل إستِهدافَ ذاتِيَّتِهِ في ما هيَ: هَوِيَّةٌ وَمَعرِفَةٌ، حَضارَةٌ وأشرِعَةٌ.

هوَ الروحُ الَذي مِن لبنانَ، مُقاوِمٌ؟ بَلِ المُقاوَمَةُ الَتي وَحدَها تُنقِذُ تَنَوُّعَ الإنسانِ، إذ مِن دونِها لا تُراوِحُ الشُطآنُ والكُثبانُ مَكانَها فَحسَبَ بَل وَيتَضاعَفُ إنحِرافُها وَيَتَهافَتُ إنجِرافُها الى التيهِ العَصِيِّ.

هوَ الروحُ الَذي مِن لبنانَ يوقِظُ في المَنطِقِ، دَليلَهُ. وَيُدهِشُ بالمَنطِقِ.

هوَ قُوَّةُ لبنانَ. يا نِعَمَهُ. وَهوَ نَقيضُ بابِلَ. يا لإنبِجاسِها.

هوَ إلتِزامُ طُهرٍ يَجمَعُ بَعضاً الى بَعضٍ. وَهيَ صِقلُ عُهرٍ يُشَرذِمُ بَعضاً إزاءَ بَعضٍ.

مَبَرَّاتُ الشَهادَةِ

بالدِماءِ شَهادَةُ لبنانَ لِذاتِهِ. هوَ المُستَهدَفُ مُذ كانَ، لا لَهُ إلَّا تِلكَ الشَهادَةِ يَرفَعُها بِوَجهِ ذاكَ البابَ المُنقَضَّ عَلَيهِ مِنَ الكُثبانِ والشُطآنِ. وَمَبَرَّاتُ شَهادَتِهِ رِسالَةُ رِضاءِ الروحِ المُتُدَفِّقِ مِنهُ بِوَجهِ التَبَعثُرِ. إذ بِهِ سُطوعُ إقبالِهِ عَلى التاريخِ الآفِلِ والآتيَ، رَجاءً لِلأُلوهَةِ التي مِنها إنبَثَقَ.

لَيسَ تاريخُ بابِلَ إلَّا شُرودُ عَصَبِيَّاتٍ لا يِتلاشَى تَشَرُّدُها إلَّا لِتَلتَحِمَ تَكراراً. وَلَيسَ تاريخُ لبنانَ إلَّا صُمودَ هُدىً طالِعَةٍ مِن ظلامِيَّاتِ الدُهورِ.

قُلتُ مَيداناً؟ لا إلَّا لبنانَ جاعِلَهُ مَرمى الأُلوهَةِ في كُلِّ إنسانٍ وَفي كُلِّ الإنساِن. في سِرِّ أزَلِيَّةٍ أُمَّوِيَّتُهُ المُتَجَلِّيَةُ أبَداً قِيَامِيَّةً... حِينَ أُمَّوِيَّةُ بابِلَ مُتَجَلبِبَةٌ إبَداً بِعُبادِيَّاتِ التَشوِيهِ. بالخَرابِ. بالإبادَةِ.

ألبنانُ مَنهَجُ النِعمَةِ وَخَتمُها، وَبابِلُ سَلَفِيَّاتُ مِراسِ العَدَمِ؟ كِلاهُما مِلحاحانِ. أنَّى لِلبنانَ ألَّا يَهِبَ روحَهُ الى كُلِّ مُستَعبَدٍ مِنَ العَدَمِ ليُحَرِّرَهُ الى المُطلَقِ. الى الكَلِمَةِ-الذُروَةِ. الى الخَلقِ-الإبداعِ. والوَيلُ لِبابِلَ كِيَانِيَّةِ عَبَثِيَّاتِ التَحَلُّلِ.

أن تَغوصَ في لبناَن، ذاكَ عَهدُكَ لِلوجودِ.

أن تَتَمَسحَنَ بِبابِلَ، ذاكَ لُصوقُكَ بِتُرابِيَّةِ الزَوالِ.