لا شك أن لا شيء يُضاهي خُطورة ما يُشاهَد في غزة من إجرام مُمنهج... صُمَّت حياله الآذان، وخرست الألسنة، ونامت الضمائر نوم أهل الكهف، ففاحت رائحة استشهاد الأطفال والنساء والعجزة والمرضى!.

ولكن في التوازي، ثمة رائحة استشهاد من نوع آخر، هو استشهاد الحضارة الإنسانية، في المشهدية الصهيونيّة الشرق أوسطية الجديدة!.

كنيسة القديس بورفيريوس

فقد تركت الأصابع الإسرائيلية بصماتها على واحدة من أقدم الكنائس الأرثوذكسيّة في غزّة... وتعرضت كنيسة القديس بورفيريوس التي يُطلق عليها أيضا اسم "كنيسة المقبرة"، وتُحيط بها مقبرة مسيحيّة، والتي هي من أقدم الكنائس في العالم، وتعرف محليا باسم "كنيسة الروم الأرثوذكس" إلى قصف إسرائيلي، في الحرب الدائرة الآن في غزة.

وقالت بطريركية الروم الأرثوذكس المقدسية، إن ضربة جوية إسرائيليّة أصابت كنيسة القديس بورفيريوس التي تؤوي المئات من "النازحين" الفلسطينيين، فيما أشار مسؤولون في قطاع الصحة الفلسطيني إلى مقتل 16 شخصا هُناك.

وقال "الجيش الإسرائيلي" من جهته، إن جزءا من الكنيسة تعرض لأضرار جراء ضربة على مركز قيادة لفصيل مسلح وإنه "يراجع الواقعة".

وذكر مسؤولون فلسطينيون أن ما لا يقل عن 500 مسلم ومسيحي كانوا يحتمون في الكنيسة من القصف الإسرائيلي.

تاريخ الكنيسة

يعود تاريخ بناء الكنيسة التي تقع في "حي الزيتون" التاريخي، إلى العام 425 ميلادية، قبل أن يتم تجديدها في العام 1856، وتشملها بعد ذلك أعمال ترميم مُتلاحقة، آخرها في الـ2020.

وتتكون هذه الكنيسة من بهو كبير، مُغطى بسقف وأقبية متقاطعة، على شكل "جمالوني" (شكل شبيه برأس المُثلث). وترتكز على دعامات حجرية وعلى أربعة جدران بُنيت من الحجر الرملي الصلب. وللكنيسة التي سُميت على اسم أسقف غزة السابق، القديس بورفيريوس، ثلاثة مداخل:

*واحد غربي وهو الباب الرئيسي للكنيسة

*ومدخل شمالي

*إضافة إلى آخر جنوبي، افتُتح في السنوات الأخيرة، ويؤدي إلى ردهة علوية افتُتحت لاستقبال عدد أكبر من المصلين.

ويتصدر النص التأسيسي للكنيسة المدخل الرئيسي، منقوشا على لوح رخامي باللغة اليونانية القديمة في ثمانية سطور.

ويعود الهيكل الأصلي لـ"كنيسة القديس بورفيريوس"، إلى القرن الخامس ميلادي، فيما تم بناء الهيكل الحالي في القرن الثاني عشر.

وتتميز الكنيسة بجدران سميكة غنية بالنقوش والزخارف والأيقونات الدينية، الشاهدة على مراحل تاريخية متعددة بحسب بحث منشور لمجلة "اتحاد الآثاريين العرب".

وبحسب السردية الأرثوذوكسية في شأن تأسيس الكنيسة، فإن إنشاءها جاء بدعم من الإمبراطور البيزنطي أردياكوس في القسطنينية (اسطنبول الآن)، بعدما لجأ إليه القديس بورفيريوس لصد اعتداءات الوثنيين ضد المسيحيين.

ووفق الرواية نفسها، فقد نجح القديس بورفيريوس في الحُصول على حماية الإمبراطور ودعمه بالموارد اللازمة لبناء الكنيسة، بعدما صدقت نبوءته بأن زوجة الحاكم البيزنطي ستنجب طفلا.

مستشفى المعمداني

وما يزيد من منسوب الشكوك والريبة، أن استهداف كنيسة القديس بورفيريوس، حصل بعد أيام من استهداف "إسرائيل" مستشفى المعمداني في غزة، ما عُرف بـ "مجزرة مستشفى المعمداني".

فهل يكون ذلك من قبيل الصدفة؟. وما هي احتمالية التهويد الغزاوي في هذا الإطار؟...

هي مجزرة أخرى، ارتكبها سلاح الجو الإسرائيلي، حينما أغار على "المستشفى الأهلي العربي" (المعمداني)، في "حي الزيتون" جنوب غزة، في ساعات الليل الأولى من السابع عشر من تشرين الأول 2023.

وأصابت الغارة الجوية الإسرائيلية العنيفة ساحة المستشفى التي كان فيها العشرات من الجرحى، فضلا عن مئات النازحين المدنيين وغالبيتهم من النساء والأطفال، بحسب "ويكيبيديا".

وقد سببت المجزرة الإسرائيلية كارثة حقيقية؛ إذ مزقت أجسادَ الضحايا، وجعلتهم أشلاء متفرقة ومحترقة، فيما تحول المستشفى إلى بِركة من الدماء. ويُعد المستشفى أحد أقدم مستشفيات قطاع غزة، ويتبع للكنيسة الأسقفية الأنغليكانية في القدس.

إنذار بالإخلاء

كانت القوات الإسرائيليّة وجهت إنذارا للمستشفى -ولغيرها من المستشفيات أيضا- تطلب فيه إخلاء تلك المستشفيات. إلا أن الإخلاء الكامل تعذر.

تاريخ المستشفى

يعمل المستشفى مُنذ العام 1882. وأسسته "جمعية الكنيسة الإرسالية"، التابعة لكنيسة إنكلترا. وأداره لاحقا المذهب المعمداني الجنوبي، كبعثة طبية بين عامي 1954 و1982.

ومن ثم عاد المستشفى تحت إدارة الكنيسة الأنغليكانية في الثمانينيات.

كما واستمرت الغارات الإسرائيلية على مناطق قريبة جدا من المستشفى، ما دفع آلاف النازحين للفرار منه هو الآخر.

فالمستشفى كان يُؤوي حوالي 6،000 نازح، ومن ثم بعد وصول الضربات الإسرائيلية إلى المناطق القريبة منه، فرّ الكثير، وظل حوالي 1000 من النازحين يحتمون في الفناء.

المذبحة

وأظهر مقطع "فيديو"، انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، حجم الغارة التي طاولت المستشفى، وما أعقبها من انفجار ضخم هزّ كامل المناطق المحيطة بموقع الضربة، فضلا عن ألسنة اللهب التي لم تهدأ.

وأشارت التقديرات الأولية إلى مقتل ما بين 200 إلى 300 مدني فلسطيني في القصف الإسرائيلي الذي تعمد استهداف مستشفى المعمداني الممتلئ عن آخره بالمدنيين النازحين وبضحايا الغارات الإسرائيلية. كما وتصاعدَ عدد الضحايا في شكل كبير بسبب الموقع المستهدَف وعدد المدنيين ممن كانوا داخله. وأعلنت وزارة الصحة في غزة «استشهاد أكثر من 500 فلسطيني في قصف الاحتلال لمستشفى الأهلي المعمداني»...

إن ما يُجرى الآن في غزة، إنما هو "إرهاب مُمنهج"، لا يكتفي بتدنيس قُدسيّة الإنسان، كمخلوق على صورة الله ومِثاله... بل وتطاول أيضا على التاريخ الإنساني، والقيم كما وإرادة العيش في سلام... لمصلحة تهويد غزة... بعد العمل السابق الدؤوب على تهويد القُدس!.