"كُلُّ شِيءٍ يَنتَهي هُنا. لَم أعُد أملِكُ أيَّ مَجدٍ عَظيمٍ... يَجِبُ أن أذهَبَ الى الشَرقِ لأنَّ الأمجادَ العَظيمَةَ تأتي مِن هُناكَ". قالَ ذَلِك، في العامِ 1798، لِأَحَدِ المُقَرَّبينَ مِنهُ. كانَ في الثامِنَةِ والعِشرينَ، وَفي نَشوَةِ إنتِصارِهِ بإيطاليا.

نابوليون بونابَرت.

وَفي 26 شُباطِ 1799 وَصَلَ الى غَزَّةَ، بَعدَما أبحَرَ وَجُنودَهَ وَعُلَماءَهُ في تَمُّوزَ قَبلَ عامٍ الى مِصرَ وأهراماتِها. هَزَمَ المَماليكَ في 21 تَمُّوزَ، وَدَخَلَ القاهِرَةَ. لَكِنَّ الأميرالَ الإنكلِيزيَّ نيلسونَ دَمَّرَ الأُسطولَ الفَرَنسِيَّ في أوَّلِ آبَ. فَعَبَرَ إفريقيا بإتِّجاهِ آسيا، وَسَطَ مَصاعِبَ مُتلاحِقَةٍ. حُلمُهُ رؤيَةُ لبنانَ: "بَوَّابَةُ المَشارِقَ". قَرأ عَنهُ في الكِتابِ المُقَدَّسِ وَتَلميحاتِ القُرآنِ الكَريمِ والأَحاديثَ النَبَوِيَّةِ، حينَ كانَ الأُسطولُ الفَرَنسِيُّ مُتَّجِهاً مِن تولون الى الإسكَندَرِيَّةِ. وأوَضَحَ لَهُ عالِمُ الرياضِيَّاتِ مونج أنَّ غَزَّةَ هيَ الحُدودُ الجَنوبِيَّةُ لِمَملَكَةِ كَنعانَ-الفِينيقِيَّةِ الوارِدَةِ في إستِهلالِ سِفرِ التَكوينِ. لِلبنانَ الَذي مُنذُ التَكوينِ كانَ.

حُلمُهُ رؤيَةُ لبنانَ.

كَتَبَ الى أميرِهِ، بَشيرِ. لَكِنَّهُ ما رَدَّ عَلَيهِ، مُتَجَلبِباً بِذَريعَةِ الحَيادِ.

بَعدَها، التَتِمَّةُ مُتوازِيَةٌ: بونابَرتُ سَيَغدو إمبراطوراً يُوَحِّدُ اوروبا بالدَمِّ. لَكِنَّ الدَمَّ سَيَنقَلِبُ عَلَيهِ، وَسَيَنتَهيَ مَنفِيَّاً بِيَدِ أعدائِهِ الإنكليزِ. وَبَشيرُ سَيبقى أميراً، بالدَمِّ سَيَحكُمُ لبنانَ، وَسَينقَلِبُ الدَمُّ عَلَيهِ، وَسَيَنتَهيَ مَنفِيَّاً بِيَدِ أعدائِهِ الانكليزِ.

لَكِنَّ إرثَهُما مُختَلِفٌ: لَم يُخَلَّد بونابَرتُ بِفُتوحاتِهِ، بَل بإرسائِهِ القانونَ قاعِدَةً لِلحُكمِ. هوَ الَذي نَقَلَ الى الأوروبِيَّةِ القانونَ الرومَانِيَّ الَذي صاغَهُ الُلبنانِيُّ اولبيانوسَ الصوريُّ أعظَمُ عُلَماءِ مَدرَسَةِ بَيروتَ لِلحُقوقِ زَمَن الإمبراطورِيَّةِ الرومانِيَّةِ، وأساسُهُ تَكريسُ الحُرِيَّاتِ العامَّةِ. وَلَم يُخَلَّد بَشيرُ الشَهابِيُّ بِعَبقَرِيَّتِهِ، بَل بإرسائِهِ المُرَاوَغَةَ السياسِيَّةَ والتَمَلُّقَ تارَةً لِحاكِمِ الشامِ، وَطوراً لِوالِيَ غَزَّةَ، وأطواراً لِباشا مِصرَ، لِلتَأبُّدِ عَلى كُرسيِّ الحُكمِ، بإزكاءِ التَفرِقَةِ المُتَراكِمَةِ لِلتَسَيُّدَ، وَشِراءِ الذِمَمِ، وَقَمعِ الحُرِيَّاتِ الَتي طالَبَت بِها العامِيَّاتُ الشَعبِيَّةُ المُنادِيَةُ بالمُساواةِ في الحُقوقِ وَتَرسيخَ العَدالَةِ وَنَبذِ الطَبَقِيَّةِ: مِن عامِيَّةِ حَمَّانا الأُولى العامِ 1800، الى عامِيَّةِ أُنطِلياسِ الأُولى العامِ 1820، الى عامِيَّةِ لِحفِدَ العامِ 1821... وَما سَبَقَها مِن تَمَرُّداتٍ فَلَّاحِيَّةٍ عامَي 1782 و1784.

الحَياةُ-المِعنى

الشيرُ العالي في لِحفِد شاهِدٌ عَلى خَيارِ لبنانَ: الحُرِيَّةُ-مِعنى-الحَياةِ. فَقَد رَمى الثُوَّارُ أنفُسَهُمُ مِن أعلاهُ لِئَلَّا يَستَسلِموا لِلأَميرِ.

هُناكَ، في نَضارَتِهِمِ تَبَرعَمَت وعودٌ: السَريعُ الكَمالِ يَحكُمُ عَلى الأثيمِ.

أتَكونُ الرُؤيةُ هيَ كُلُّ شَيءٍ؟ هيَ المانِحَةُ الحَياةَ إكتِمالَ المِعنى، فُرصَةُ رَحمَةٍ لِلمُتَغاضينَ عَنِ الرَحمَةِ. هيَ العُروَةُ الوثقى الفائِضَةُ على الوجودِ. بِها يَكتَمِلُ الرِضى في عُشرَةِ السَماءِ، بِحَرارَةٍ خَفِيَّةٍ هيَ دَعوَة إلتِقاطِ الوجودِ الكَبيرِ مِن زاوِيَتِها.

بونابَرتُ الشابُّ أدرَكَها إذ دَنا مِن لبنانَ.

الشِهابِيُّ الشَيخُ ما بَلَغَها وإِن حَكَمَ لبنانَ.

الأَوَّلُ بَقِيَ فيهِ الشَوقُّ مُتَّقِداً لِلبنانَ الكائِنَ مِن فَوقٍ. الثاني حَجَبَ بَصيرَتَهُ إلّا لِما هوَ في الأَسفَلِ. أمانَةُ الأَوَّلِ لِحُلمِهِ-لبنانَ تَقَبَّلَها مأمَناً تأسيسيَّاً لِلعالَمِ خَلَّدَهُ مِن بَعدِهِ شاتوبريانُ، لامارتينُ، هوغو، ريمبو... لايَقينُ الثاني لِلبنانَ-الحُلمِ بَدَّدَها وَديعَةً.

أفي هَذا المِعنى-الحَياةُ تَجَوهر لبنانَ؟ قَدرَ إشعاعِهِ يُجانِسُ، أيَ يُوَحِّدُ في مَعِيَّةِ الفَوقِ-المُحَرِّرِ. إنَّها الحَقيقَةُ-المَنأى، غَيرُ الزائِلَةِ... حَتَّى بالمَوتِ.

"كُلُّ شَيءٍ يَنتَهي هُنا... حُلُمٌ واحِدٌ ما حَقَّقتُهُ: لَم أزُر لبنانَ". هَمَسَ ذَلِكَ الإعتِرافَ لِمَن كَلَّفَهُ تَدوينَ مُذَكَّراتِهِ في مَنفاهِ البَعيدِ عَن عالَمِهِ، في جَزيرَةِ القِدِّيسَةِ هيلانَةِ، حَيثُ ماتَ.

*الرسم المرافق للنص للفنان أندريه كلْفَيَان