لا! لَيسَ المَوتُ دَعوَتَهُ، لبنانُ، وَلا هوَ جَزَعَهُ إن شُدَّ لِلرِحالِ إلَيهِ.

أهوَ الأبعَدُ عَنِ الوجودِ، إذِ الوجودُ هوَ الآنِيُّ المَنظورُ؟ بَل هوَ المَقدِسُ الَذي، في إسرائِهِ وَمِعراجِهِ، حَيٌّ يَبقى، وَحَيٌّ يَنتَصِرُ على المَوتِ بالمَوتِ وقوفاً، وَقِيامَتُهُ شاهِدَةٌ عَلى موتِهِ ألفَ ألفَ مَرَّةٍ.

أجَل! لبنانُ وَحدُهُ تَجَرَّعَ المَوتَ حتَّى الثَمالَةِ، وَعَبَرَهُ مَرحَلَةً تِلوَ مَرحَلَةٍ، وَقَد أُذيقَ مِنَ الإضطِهادِ قَدرَ ما في الحَياةِ مَن غِلالِ مَسيراتٍ. وَفي كُلِّ مَرحَلَةٍ ما مواجَهَتُهُ إلَّا مَعَ مائِتينَ يَبغونَ إفناءَ كَيانِهِ والقَضاءَ على كَينونَتِهِ، لا لِيَرتاحوا في دَهرِيَّتِهِمِ الأرضِيَّةِ فَحَسبَ بَل لِيُبَرِّروا فَناءَهُمُ الغادي وَقَضاءَهُمُ الآتي.

قُلتُ وَحدَهُ في ثَمالَةِ المَوتِ، وَجهاً لِوَجهٍ وإيَّاهُ؟ في لَحَظاتِ المواجَهاتِ مَعَهُ، وَحدُهُ لَيسَ مَديناً بِأيِّ أمرٍ: فَلبنانُ لَم يُبَرِّرهُ بإيديولوجِيَّاتٍ تَختَطِفُ الأعمارَ من بَراعِمِها إكراماً لِقادَةٍ، ولا إشتَهاهُ بُغيَةَ جَنَّاتٍ مِن حوريَّاتٍ وَقوتِ جَداوِلَ عَسَلٍ.

هوَ ذاقَ كُلَّ مَرارَةٍ، وَعانى كُلَّ ألَمٍ، وَناصَرَ كُلَّ مُضطَهَدٍ. وَما إبتَغى يَوماً أن يَكونَ لِأيِّ أحَدٍ مَصدَراً لِهَذِهِ الثُلاثِيَّةِ الَتي مِن إثمِ الآثامِ مَصدَرُها: النَهَمُ الى الإقتِناءِ. بالسَطوَةِ، بالغَصبِ. بالموارَبَةِ. بالعُنفِ.

هوَ الَذي تَكَرَّسَ بالكَينونَةِ لا بل بالتَمَلُّكِ، تَكَرَّسَ الوَطَنَ الأقصى الذي، حينَ الموَتُ يُفرَضُ عَلَيهِ مِن مُشائي تَمَلُّكِهِ عُنوَةً، يُميتُ المَوتَ بِحَياتِهِ، بِذاكَ الإفتِداءَ الَذي يَتَقَبَّلُهُ قُرباناً، ذَبيحَةً تُحَرِّرُ مِن وَطأةِ الإعدامِ بالعَدَمِ لِكَيما تُقيمَ في الحُرِيَّةِ.

لبنانُ-الأقصى، أهوَ ناصِرُ الرازِحينَ تَحتَ وَطأةِ تَصارُعِ المَوتِ والحَياةِ. ما هوَ موقِنٌ قُوَّةَ الإنبِعاثِ فَحَسبَ بَل كاتِبٌ لَهُمُ النَصرَ في الوثوقِ بِتَأكُّدِ الحَياةِ الحُرَّةِ. المُحَرَّرَةِ. المُحرِّرَةِ. بِذَلِكَ يُدرَكُ كَيفَ لبنانُ يُضيءُ بِما يَستَضيءُ، وَهوَ لَهُ مِن فَوقٍ. وَهوَ لا يَنسى أنَّ خُصوصِيَّتَهُ مِن خُصوصِيَّةِ اللهِ مُكِرِّسَهُ قِيامَةً كَونِيَّةً.

هوَ، لا كَمَن يَتَحَكَّمُ بِهِ وَيَحكُمَهُ، يؤمِنُ بإشعاعِهِ وَبِقُدرَةِ البَعثِ فيهِ.

هوَ، لا كَمَنَ يَتَحَكَّمُ بِهِ وَيَحكُمَهُ، يُجايلُ الحَياةَ في ما هيَ وَعيُ قياماتٍ يَدفِقُها في الوجودِ وَقَدَ جَعَلَهُ مقُبِلاً على جَلالِ الطُهرِ.

قُدسِيَّةُ جَذوَةٍ

أجَل! يَنتَصِرُ لبنانُ-الأقصى على عُهرِ مَن يَتَحَكَّمُ بِهِ وَيَحكُمَهُ بالطُهرِ الدافِقِ مِن قُدسِيَّتِهِ، فَيَصُبَّهُ صالِحاتٍ في لَيلِ الأديانِ والحَضاراتِ.

أيُذكَرُ أنَّهُ حينَ تَقادَمَ الَليلُ على طَريقِ الحَريرِ، أقامَ مِن مَوتِهِ البَعيدِ إنعامأ غايَةَ حُكمٍ، بِقُدسِيَّةِ جَذوَةِ الأقصى فيهِ؟

كانَ ذَلِكَ العامَ 1273، عِندَما قَصَدَ قوبلاي، الخانُ الأعظَمُ حَفيدُ جِنكيزَ، إحتِلالَ الصينَ، بَعد عَجزِ جَدِّهِ عَن ذَلِكَ. وَلَم يَجِد إلَّا الُلبنانِيِّينَ أًصدِقاءَ ماركو بولو الآتيَ إلَيهِ تاجِراً-مُغامِراً مِنَ البُندُقِيَّةِ فَصارَ سَجينَهُ، المُبتَغينَ تَحريرَهُ، لِيَضَعوا خِطَّةَ إقتِحامِ سورِ كزيانغ يانغ، بِدَكِّهِ بِمَجانيقَ بَنوها شَبيهَةً بالتي إستَخدَمَها الإسكَندرُ في حِصارِهِ لِصورَ، العام 332 قَبلَ الميلادِ، والَتي قاوَمَتهُ بِبُطولَةِ-نَموذَجٍ.

لكِنَّهُمُ إشتَرَطوا على الخانِ ألَّا يُكَرِّرَ جَرائِمَ الإسكَندَرَ بِصَلبِ مَن يَنتَصُرُ عَلَيهِمِ وَتَدميرِ إرثِهِمِ بَل... بِتَحريرِ أبناءِ الصينَ مِن سَطوَةِ سُلالَةِ سونغَ التي تَحَكَّمَت بإستِعبادِهِمِ.

نَجَحَتِ الخِطَّةُ، إلَّا أنَّ الخانَ تَماثَلَ بِجَدِّهِ، وأعدَمَ الإمبراطورَ الصينيَّ الطِفلَ الذي أتاهُ بِهِ بولو مِن مَخبَئِهِ... فإنهارَت إمبراطورِيَّةُ المَغولِ الكُبرى وَطَريقُ الحَريرِ مَعَها.

الأقصى-لبنانُ إطلالَةٌ على الخَيرِ؟ بَل السيادَةُ حينَ مَدعاةُ التَفَوُّقِ تَفَلُّتُ ظُلمٍ يَتَزايَدُ تَعقِيداً. حينَها يَلتَمِعُ لبنانُ تَفَجُّرَ جَذرِيَّةِ الحَياةِ لِغَلَبَةِ الوجودِ.