لفهم خطط العدو يجب الغور في نفسيته، وقراءة تصرفاته على أساسها.

في أسس علم الجنايات، التي أنتمي لها بحكم عملي، دائمًا ما نضع أنفسنا مكان المجرم أو الضحية، نتلبّس لبوسه، ونتقمص شخصيته، وندخل تحت جلده، ونفكر مثله، ونتجاوب مع نفس المعطيات والظروف التي مر فيها، في الزمان و المكان المحددين، لنستطيع فهم تصرفاته، وأسباب أفعاله، وتحليل ردة فعله الشخصية عليها…

هذا في العام ، لنذهب سويًا نحو الخاص :

بعد السابع من تشرين الأول الماضي المجيد، طويت صفحة من التاريخ، كان فيها العدو جيشًا لا يقهر، وبعبعا مخيفا داخليا واقليميا.

ثم تدحرجت الأمور سلبًا للكيان الموقت، فخسر تدريجيًا مصداقيته كمستعمرة متقدمة للغرب في شرقنا، وخسر في آن معًا أكذوبة عمل بجهد وكد وعرق على بنائها لسنوات، إنه واحة للديمقراطية في بحر من الديكتاتوريات المحيطة، وملتقى علمي، ثقافي واجتماعي-ديني، ومثالًا يحتذى به لدول الجوار .

ثمانية وخمسون يومًا من الإبادة الجماعية لشعبنا في غزة، رافقها حملة شعواء عنصرية ضد أهلنا في القدس والضفة، لم يتوقّف رحاها حتى هذه الدقيقة.

هنا نأتي الى صفقات تبادل الأسرى مع المعتقلين تعسفًا، التي ساهمت إيجابًا في هدنة موقتة بين المحتل وإبن الأرض.

أدارت المقاومة المفاوضات، بحنكة سياسية بارزة …

قسمت الأسرى لديها الى مجموعات أربعة:

المجموعة الاولى، التي كانت عبارة عن عمّال أجانب وحملة جوازات دولية .

المجموعة الثانية، المستعمرون المدنيون، من نساء وأطفال وعجزة .

المجموعة الثالثة، المستعمرون المدنيون من الاصحاء البالغين، و قسمت الى جزئين، نساء ورجالا .

والمجموعة الرابعة، وهم من العسكريين في الخدمة الفعلية أو الاحتياط، و قسّموا الى رتب، متدنية، وسطيّة وعليا.

خاضت المقاومة هذه المعركة التفاوضية الشرسة، بين عدو مأزوم داخليًا وخارجيًا، على كل الصعد العسكرية والسياسية والاجتماعية، وبين مطالبها، تبييض سجون الاحتلال، رفع الحصار، وقف إطلاق النار، إعادة الإعمار، فتح المعابر وحتى تأمين خط تواصل بري مع الضفة الغربيّة.

ومع النهار الاخير من التمديد للهدنة. كان التبادل يتم على قاعدة "واحد بثلاثة"، والسماح بدخول المساعدات.

تقريبًا انتهت المقاومة من المجموعات الأولى والثانية من الأسرى لديها، وقد حان وقت رفع السعر والمطالبة بالمزيد من التنازلات.

العدو يرفض حتى الان، الذهاب نحو تنازلات كبيرة، لأسباب عديدة، هنا سنلبس لبوس العدو و نتابع:

-على الصعيد الشخصي، النتن (رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتانياهو) وحكومته وقياداته العسكرية والمخابراتية، يعرفون أنّ نهاية الحرب تعني نهايتهم الشخصية حكمًا، إما السجن وإما الموت كما حصل مع اسحق رابين.

-على الصعيد السياسي: حكومة يؤلّف أكثريتها من متطرفين صهيونيين، غير قادرة على التراجع عن الثوابت والأساسيات التي يحملونها فكريًا ودينيًا وسياسيًا.

على الصعيد الاجتماعي: هنالك انقسام مجتمعي حاد بين المتطرفين والمعتدلين، ولكن الأهم هو خوف المستعمرين المدنيين من العودة الى محيط غلاف قطاع غزة والشمال الفلسطيني على الحدود اللبنانيّة، وهو عامل أساسي، لا يحل إلا بالقضاء على مسبباته.

-عامل الهجرة المعاكسة في حال فشل رواية حكومة الاحتلال على تأمين العنصر الاساسي لوجود الكيان، أي القدرة على السيطرة والاستعمار والتوسع، مع الحفاظ على التفوق العسكري.

-على الصعيد الإقليمي: سقوط مفهوم الدولة القوية المسيطرة، هو سقوط لمفهوم كل اتفاقيات السلام والخنوع من أوسلو الى وادي عربة وصولًا للإبراهيمية (العرب يخافون القوي ويحترمونه و يبتعدون عن الضعيف ويحتقرونه).

-على الصعيد الدولي: هنا تنتفي الحاجة لمستعمرة متقدمة في الشرق، ركيكة هزيلة البنيان، بحاجة كل ما تقدم نحوها فصيل واحد، الى عشرات الأساطيل والمدافع لحمايتها، ناهيك إنها تكلف ميزانيات الدول المليارات من الدولارات لتقف على رجليها.

انطلاقا من كل ما ذكرنا، واذا ما وضعنا الانفعالات العاطفية جانبًا.

نرى أن ما يحدث اليوم ليس النهاية، ما نراه هو بداية النهاية، من الأرجح سنذهب نحو تصعيد وعنف وتوتر جديد سيشمل أكثر من جبهة و أكثر من منطقة، وأعود لأكرر، لن يلجم الحرب، إلا أميركا .

وأميركا لن تتحرك، إلا عندما ستدفع ثمنًا اقتصاديا كبيرا، يؤثّر عليها داخليًا في الدرجة الاولى…