تُدخلنا الرحلة الليتورجيَّة الأربعينيَّة للميلاد[1]، في أحداثٍ خلاصيَّة متعدِّدة. نتوقَّف هذا الأحد[2] في محطَّة ميلاديّة-قياميَّة وثنائيَّة: النبيّ دانيال والفتية الثلاثة.

صحيح أنَّ صاحبَي الحدث هما من العهد القديم[3]، إلَّا أنَّ لهما حضورهما المميَّز في الليتورجيَّة والفنِّ الإيقونغرافيِّ. فما حدث معهم جميعًا كان استباقًا لخلاص الربِّ في القيامة المجيدة.

اسم دانيال آراميٌّ-عبريٌّ مؤلَّف من فعل «دان»، أي قضى حكمًا، و«إيل» هو الله. لهذا أتت ترجمات عديدة لاسمه: الله قضى/حَكَمَ، قاضيَّ هو الله، قضاء الله.

أيًّا يكن، فهو يذكِّرنا بالآية التالية: «الملِكُ الجالس على كرسيِّ القضاء يُذرِّي بعينه كلَّ شرٍّ» (أمثال 20 : 8).

دانيال نال إكرامًا كبيرًا عند الملك دَارِيُوس، إذ تفوَّق على الوزراء في حكمته، وأراد أن يولِّيه على المملكة كلِّها. ولمَّا لم يجد حاسدوه أيَّ شيء يدينونه فيه، وجَّهوا سهامهم نحو إيمانه. وأوعزوا إلى الملك أن يُصدر فرمانًا بألَّا يُطلَب أمرٌ من إله أو إنسان إِلاَّ من الملك، والَّذي يخالف ذلك يُطْرَحُ فِي جُبِّ الأُسُودِ.

دانيال بقي يسجد لإلهه، فنفَّذ الملك فيه الحكم، وقال له: «إنَّ إلهك الَّذي تعبده دائمًا هو ينجِّيك». ويخبرنا سفر دانيال في الإصحاح السادس، أنَّ الملك كان قلبه عليه، وصام ولم يُغمض له جفن.

وعندما استفقده في صباح اليوم التالي، ناداه: «يا دانيال عبد الله الحيِّ، هل إلهُك الَّذي تعبده دائمًا قَدِرَ على أن ينجِّيك من الأُسود؟». فأجابه دانيال بأنَّ إلهه أرسل له ملاكًا ونجَّاه.

عندها أمر الملك بإخراجه وطرح الَّذين اشتكوا عليه مكانه. فالتهمَتْهُم الأُسود على الفور. إثر ذلك أصدر داريوس أمرًا ملكيًّا لعبادة إله دانيال بعد أن آمن به.

ومعروف أنَّ دانيال هو الوحيد الَّذي استطاع أن يفسِّر حلم الملك نبوخذنصَّر الَّذي أرعبه، بعد أن فشل العرَّافون والسحرة جميعهم (دانيال 2).

أهمُّ ما في الحلم نبوءة عن مجيء المسيح وغلبته: «لأنَّك رأيت أنَّه قد قُطِعَ حَجَرٌ من جبل لا بيدَين، فسحقَ الحديد والنحاس والخزف والفضَّة والذهب».

فـ «حجر من جبل لا بيدَين»، هو المسيح المولود دون زرع رجل. هكذا فسَّر الآباء القدِّيسون الآية، وهذا ما نرتِّله في الميلاد[4]. وهذا ما أنشده داود الملك: «الحجر الَّذي رفضه البنَّاؤون قد صار رأس الزاوية. من قِبَل الربِّ كان هذا، وهو عجيب في أَعيُننا». ويكمل: «هذا هو اليوم الَّذي صنعه الربُّ، نبتهج ونفرح فيه. آه يا ربُّ خلِّصْ! آه يا ربُّ أَنقِذْ!» (مزمور 118 : 22-26).

هذا معنى اسم يسوع: يهوه (الله) يُخلِّص.

وهذا أيضًا ما أعاده الربُّ في الهيكل بالحرف أمام رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب. وأكمل: «ومَنْ سقط على هذا الحجر يترضَّض، ومَن سقط هو عليه يسحقه!» (متَّى 21 : 41-44). تمامًا كما تنبَّأ سمعان الشيخ عندما حمل يسوع على ذراعيه[5].

الحادثة مع الفتيان الثلاثة لا تقلُّ جمالًا وخلاصًا. فكان الأمر للشعب بأنَّه عندما تسمعون صوت القرن والعزف تسجدون لتمثال الذهب، ومن يخالف يُرمى في النار[6].

الفتية الثلاثة رفضوا السجود جهارة أمام نبوخذنصَّر، مع العلم أنّهم نالوا إكرامًا عنده ومقامًا، فرماهم في أتون نار لهيب (دانيال 3).

وكانت العظمة أنَّ الفتية لم يكونوا يحترقون وكانوا يسبِّحون الله، والملك رأى شخصًا رابعًا معهم في وسط النار فاندهش قائلًا: «منظر الرابع شبيه بابن الآلهة».

عندها أخرجهم ومجَّد إلهَهم، وأمر بألَّا يتكلَّم عليه أحد بالسوء، وقدَّمهم في مملكته.

حادثة خلاصيّة ما زالت الكنيسة ترتِّلها بفرح وحبور[7]: «إنَّ الفتية، إذ قد نشأوا معًا على حسن العبادة، مُزدَرين بأمر الملحد، لم يجزعوا من وعيد النار، لكنَّهم كانوا يرتِّلون، وهم قائمون في وسط اللهيب: مبارك أنت، يا إله آبائنا».

ما أجمل هذا الترابط الإلهيَّ من العهد القديم إلى الجديد، كيف لا والروح القدس هو المتكلِّم! والمولود هو المخلِّص الفادي والقائم!.

هذا هو إيمان المسيحيِّين. فليس مستغربًا أن يكونوا صوَّروه على جداريَّات في القرن الثالث الميلاديِّ في دياميس روما حيث الأضرحة.

ناشدوا المخلِّص يقينًا وثباتًا. فكما خلَّصْتَ دانيال خلِّصْنا، وكما أنقذتَ الفتية أنقِذْنا. خلِّصنا وأنقذنا، ليس من الموت الجسديِّ الآتي لا محالة، بل من الموت الروحيِّ.

خلاصة، فقد قيل قديمًا عندما تسمعون صوت القرن... تسجدون لتمثال الذهب. ما زال هذا القرن يصدر نفيره الشيطانيَّ، وسيبقى إلى اليوم الأخير، لتتغربل الناس.

ونحن نقول: عندنا أقوى منه، ولا نهابه، وهو صوت الأجراس الَّتي تعلن مع الملائكة انتصار المسيح على الشرِّير واتباعه، وتنشد مبشِّرة: «لا تخافوا!... وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلِّص هو المسيح الربُّ» (لوقا 2 : 10-11).

إلى الربِّ نطلب.

[1]. بدأ صوم الميلاد في الخامس عشر من شهر تشرين الثاني.

[2]. السابع عشر من شهر كانون الثاني.

[3]. القرن السابع قبل الميلاد.

[4]. أيُّها المسيح المسبَّح، لقد خرج قضيبٌ من أصل يسَّى، ومنه قد نبتَّ زهرةً، من جبل مُظَلَّلٍ مدغل، أيُّها الإله المنزَّه عن الهيولى. فأتيتَ متجسِّدًا من البتول الَّتي لم تعرف رجُلًا. فالمجد لقدرتك يا ربّ (كاطافاسيَّات الميلاد).

[5]. «ها إنَّ هذا قد وُضِعَ لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، ولعلامةٍ تقاوَمُ» (لوقا 2 : 34).

[6]. «عندما تسمعون صوت القرن والناي والعود والرَباب والسِنطير والمزمار وكلِّ أنواع العزف، أن تخِرُّوا وتسجدوا لتمثال الذهب الَّذي نصبَه نبوخذنصَّر الملك. ومَن لا يخرُّ ويسجد، ففي تلك الساعة يُلقى في وسط أتون نار متَّقدة».

[7]. كاطافاسيَّات الميلاد.