مرّ أكثر من نصف شهر كانون الثاني، من دون أن يظهر "الفرج" الذي وُعِد به اللبنانيون نهاية العام الماضي، فطبول الحرب لا تزال تُقرَع من البوابة الجنوبية، على وقع التهديدات الأمنية المتصاعدة على أكثر من خط، فيما ملفّ الرئاسة ثابت على "مراوحته"، بعدما غاب، أو ربما غُيّب، عن "سلّم الأولويات"، في الداخل كما الخارج، بانتظار تحديد مواعيد للموفدين الدوليّين، بعد جلسة متوقّعة للخماسيّة الدوليّة في الأيام القليلة المقبلة.

في ظلّ هذا "الجمود" على خط المشهد الرئاسي، إن جاز التعبير، استقطبت "حركة" رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية اهتمام الأوساط السياسية هذا الأسبوع، سواء لجهة توقيتها حيث جاءت بعد فترة من "الانكفاء" اتّسم بها أداء الرجل، منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، بل قبل ذلك، أو لجهة مضمونها، مع اللقاءين البارزين اللذين جمعا بينه وبين كل من قائد الجيش العماد جوزيف عون، وقيادة "الحزب التقدمي الاشتراكي".

ومع أنّ هذين اللقاءين ارتديا طابعًا "اجتماعيًا" إلى حدّ بعيد، حيث جاء الأول في إطار "تعزية" فرنجية لعون بوفاة والدته، فيما أتى الثاني على شكل "عشاء عائلي" استكمالاً لتواصل كان قد بدأ بين الحزبين على خلفية ملف التعيينات العسكرية، فإنّ سياقهما اثار الكثير من علامات الاستفهام حول دلالات سياسيّة وراءهما، بل "انعكاسات مفترضة" لهما على خط مختلف الاستحقاقات، ولا سيما استحقاق رئاسة الجمهورية.

فهل يمكن قراءة "حراك" فرنجية المستجدّ، على إنه إعلان بدء مرحلة جديدة في مسار "ترشّحه" للرئاسة، وما سرّ "توقيته" اليوم تحديدًا؟ هل يمكن أن يُفهَم من هذا الحراك أنّ "حظوظ" فرنجية الرئاسية قد ارتفعت على وقع تطورات الأسابيع الأخيرة؟ ولماذا قرأ فيه البعض "استفزازًا" لرئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل الذي لا يزال يرفع "الفيتو" في وجه ترشيح كل من فرنجية وعون على حدّ سواء؟!.

بعيدًا عن كلّ التحليلات والاستنتاجات والتفسيرات التي تحتمل الصواب كما الخطأ، يقول المقرّبون من رئيس تيار "المردة" إنّ ما يُحكى عن "حراك مستجدّ" بدأه هذا الأسبوع، ليس سوى استكمال لنشاط بدأه الرجل منذ ما قبل إعلان ترشيحه للرئاسة، يقوم على التواصل مع مختلف الأطراف والأفرقاء، ولا سيما أنّ فرنجية لم يطرح نفسه يومًا "مرشح فريق ضد آخر"، بل يصرّ على أن يكون "مرشحًا توافقيًا وتوفيقيًا" حتى يتمكن من النجاح.

وعلى الرغم من أنّ اللقاءين مع قائد الجيش، وآل جنبلاط، يتقاطعان في الشكل، بوصفهما يندرجان في إطار "اجتماعي عائلي"، إلا أنّ المتابعين يفصلون بين اللقاءين في القراءات، فالأول الذي جاء من باب "التعزية"، أراد فرنجية أن يوجّه رسالة من خلاله للقاصي والداني، أنّه ليس "على خصومة" مع قائد الجيش، حتى لو كان الأخير برأي كثيرين "منافسه الأول"، وربما "الأقوى"، على الرئاسة، في ضوء الدعم الذي يحظى به من خصوم فرنجية تحديدًا.

ولعلّ رئيس تيار "المردة" سعى أيضًا من خلال هذا اللقاء، لا إلى تأكيد أنّ علاقته مع قائد الجيش "عابرة" للاصطفاف الرئاسي المؤقت فحسب، ولكن قبل ذلك، إلى "تكريس" ما يعلنه باستمرار من أنه لن يقف "حجر عثرة" في وجه أيّ توافق شامل على الرئاسة، بل أنه لن يجد مانعًا في "تسهيل" انتخاب قائد الجيش، إذا ما شعر أنّ الأخير يمتلك فعلاً الحيثيّة المطلوبة، وهو ما ليس متوافرًا حتى الساعة، طالما أنّ "الثنائي الشيعي" مثلاً لا يزال متمسّكًا بدعم فرنجية.

ولا يخفى على أحد أنّ هذا اللقاء تحديدًا، قد يكون حمل بين طيّاته، عناصر "استفزاز" لرئيس "التيار الوطني الحر"، ولو أنّ الأخير كان بدوره قد قفز فوق كلّ الحملات التي شنّها على قائد الجيش، وزاره معزّيًا، فلقاء الرجلين اللذين يكاد باسيل يعلن "انفتاحه" على انتخاب أيّ ماروني رئيسًا للجمهورية ما عداهما، لا يمكن أن يكون "مريحًا" له، وفق ما يقول العارفون، خصوصًا إذا ما صحّت "الرسائل" التي استنبطها بعض الدائرين في فلك باسيل.

من بين هذه الرسائل على سبيل المثال، أنّ هذا اللقاء جاء استكمالاً لفرضية "التخيير" التي يحاول البعض طرحها على باسيل، على طريقة "الاختيار" بين فرنجية وعون، علمًا أنّ كثيرين يعتقدون أنّ "حزب الله" تحديدًا يقف خلف مثل هذا الطرح، لاعتقاده أنّه "الطريقة المثلى" لإقناع باسيل بالسير بترشيح فرنجية، ولو من باب "قطع الطريق" على عون ليس إلا، حتى لا ينافسه على الزعامة، لكنّه طرح لا يزال يصطدم برفض باسيل المُطلَق بطبيعة الحال.

وبعيدًا عن تفسيرات لقاء اليرزة، التي قد تكون "ضُخّمت" في مكانٍ ما، وفقًا للمتابعين، فإنّ "عشاء كليمنصو" مع كلّ ما أعطي من اهتمامٍ "مبالغٍ به" ربما، فضلاً عن رمزيّته الاستثنائية، أثار بدوره الكثير من علامات الاستفهام، دفع البعض لحدّ توقّع "انعطافة جنبلاطية" قريبة، تشبه "انعطافاته التاريخية الشهيرة"، ينتقل بموجبها لمعسكر داعمي ترشيح فرنجية، ما يسهّل على الأخير الوصول إلى بعبدا، بل يفرش "السجادة الحمراء" أمامه.

يقول العارفون إنّ هذه القراءة لا تبدو، أقلّه حتى الآن، لا واقعية ولا دقيقة، فلا شيء يوحي أنّ عشاء كليمنصو الذي اكتفى القيّمون عليه ببيانٍ مقتضب، اقتصر على "العموميات"، حين ذكر أنّ المجتمعين تناولوا "الشؤون العامة" من دون تحديد ماهيّتها، من شأنه أن يشكّل "نقلة نوعيّة" على خطّ الملف الرئاسي، بل إنّ هناك من أشار إلى أنّ الملف لم يُبحَث "في العمق"، لأنّ كل طرف يدرك سلفًا موقف الطرف الآخر "الثابت" منه.

من هنا، يضع العارفون هذا العشاء "في سياقه الموضوعي"، فهو يأتي في إطار التواصل والانفتاح، الذي يدعو إليه كل من "الاشتراكي" و"المردة"، والذي كان بدأ قبل أسابيع على خلفية ملف تعيين رئيس الأركان حين زار من وفد من الحزب فرنجية، من دون أن يعني ذلك أنّ أيّ "مقايضة" من أيّ نوع مطروحة، لا بين رئاستي الأركان والجمهورية، ولا بين غيرهما من الاستحقاقات السياسية المطروحة.

وإذا كان جنبلاط لا يزال على موقفه "المُعلَن" في الملف الرئاسي، في ظلّ اعتقاد واسع بأنّ النائب تيمور جنبلاط "لا يحبّذ" دعم انتخاب فرنجية فعليًا، طالما أنّ الأخير مصنَّف على أنه مرشح "حزب الله"، وهو يدعو فرنجية وغيره إلى المرور عبر أحد القطبين المسيحيين أولاً، يقول العارفون إنّ كل السيناريوهات تبقى مفتوحة وواردة، ولو أنّها مؤجَّلة، بانتظار نضوج معطيات الرئاسة والمواقف منها.

في المنطق، يفترض أن يكون "حراك" فرنجية طبيعيًا، بوصفه مرشحًا مُعلَنًا لرئاسة الجمهورية، ما يتطلب منه فتح قنوات التواصل مع الجميع، في محاولة لإقناعهم بدعمه. لكن في الواقع اللبناني، تتحوّل مثل هذه "الحركة"، إلى مصدر للريبة والاستغراب، بل للاستفزاز، في بعض الجوانب، ربما لأنّ العادة التي أضحت "عرفًا" تقوم على أنّ "الرئيس العتيد" يجب أن يأتي "من فوق"، وبقرار خارجي في الغالب!.