كتب بولس الرسول إلى تلميذه تيطس: «الرجل المُبتَدِع بعد الإنذار مرَّة ومرَّتين، أَعرِضْ عنه. عالِمًا أنَّ مثل هذا قد انحرف، وهو يخطئ محكومًا عليه من نفسه» (تيطس 3: 10-11).

أتى كلامه بعد أن نصحه بأن يبتعد عن المباحثات الغبيَّة، والمنازعات الناموسيَّة لأنَّها غيرُ نافعة، وباطلة. هذا لأنَّها «صادقةٌ هي الكلمة» (تيطس 3: 8).

إنَّها كلمة الله، وما أعلنه المسيح، ونقله إلينا الرسل وعاشوه بالروح القدس، ولا يمكن أن يُفهَم إلَّا بالروح القدس. ومدخل هذا الأمر هو التواضع، ودونه سفسطات كلاميَّة لا فائدة منها.

لهذا، فالكلمة الَّتي استعملها بولس الرسول «المُبتَدِع» هي في غاية الأهمِّيَّة. ي

الكلمة اليونانيَّة تعني هرطقة[1] الَّتي تفسيرها: «أقتطع ما أريد، وأختار ما يناسبني». وهنا الطامة الكبرى خاصَّة في اللاهوت، إذ إنَّ هذا الأمر يُدخل صاحبها بالفبركة اللاهوتيَّة (Le bricolage religieux).

هذا الأمر خطير جدًّا في علاقتنا مع المسيح، ولا يمكن التساهل فيه، لهذا جاء تحذير بولس قاطعًا: «ولكن إنْ بشَّرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشَّرناكم، فليكن «أناثيما»!» (غلاطية 1: 8). وأعادها مرَّة أخرى في الآية الَّتي تلتها.

كلمة «أناثيما» في المسيحية تشير إلى الحِرْمُ، وصاحبها يُفصل علنًا من الكنيسة كي لا يقع المؤمنون في ضلاله. و«أناثيما[2]» في أصلها اليوناني والتاريخي تشير إلى شيء مقدّم للآلهة الوثنية ويوضع في مكان عالٍ ليراه الجميع.

إذًا الأمر خلاصيٌّ، والتساهل فيه مدمِّر جدًّا ونتائجه كارثيَّة، وشطط وتيهان. فالإيمان هو وحدة متكاملة لا تتجزَّأ، ولا يمكن التعامل معه بحسب ما يناسبنا، أو نختار ما يتوافق مع أفكارنا البشريَّة، لأنَّ هذا الأمر يولِّد تشرذمًا وتقسيمًا، مثالًا على ذلك أتت عبارة «الرجل المُبتدِع» بالترجمة الإنكليزيَّة للكتاب المقدَّس «a divisive person» أي الشخص الَّذي يقسِّم ويجزِّئ. وكلُّ تقسيم صغير يوصل بصاحبه وبالَّذي يتبنَّاه إلى شرخ مهدِّم.

لهذا، فإنَّ موقف الآباء القدِّيسين ضدَّ الهراطقة ليس مشكلة شخصيَّة، بل هو واجب مقدَّس لإعلان الحقيقة المسلَّمة إلينا منذ البداية.

وكلُّ شخص يعرف الحقيقة هو مسؤول، وعليه أن ينمِّي عنده موهبة التمييز، بالصلاة والمعرفة والرجوع إلى المصادر المستقيمة، وبعدم الانجرار خلف عواطفه، وبفحص كلِّ شيء بتدقيق، كما يقول الرسول: «امتحِنوا كلَّ شيء. تمسَّكوا بالحسَن» (1 تسالونيكي 5: 21).

هنا لا بدَّ من القول إنَّ المبتدع والمهرطق يكون عادة ممتلكًا كاريزما، ويكون أسلوبه جذَّابًا، ويُجيد اللعب على العواطف، وإظهار نفسه بأنَّه المضطهَد والمظلوم وغير المفهوم.

وأسوأ أنواع البدع هي الحقيقة الممزوجة بالباطل، وأخطر أنواع الباطل حقيقة محرَّفة باعتدال. لهذا يحذِّر القدِّيس فرمليانوس[3] من الَّذين يمزجون السمَّ بالعسل.

كما قد نجد من يبرِّر المبتدعين بأنَّهم يقدِّمون أشياء جديدة تكسر الروتين، وبالتالي ينبهرون بهم لأنَّهم يريدون دائمًا شيئًا جديدًا، غافلين أنَّ الجديد هو كلام الربِّ، الَّذي يجدِّدنا كلَّ مرَّة نصلِّيه ونعيشه ونحياه، ونترك الكلمات تعمل فينا بالروح القدس، لا نحن نعمل فيها. هذا لا يعني أن نكون ببَّغائيِّين بل أن نذهب إلى العمق.

مشكلة المبتدعين أنَّهم يتعاطون مع اللاهوت كأنَّ مضمونه يتغيَّر ويتطوَّر، ضاربين بعرض الحائط أنَّه إلهيٌّ، والربُّ سابق كلَّ تطوُّر، ولا يحدُّه فكر ولا تحليل ولا علم.

هنا ينتصب أمامنا جلوس الربِّ في وسط المعلِّمين، يسمعهم ويسألهم، وكلُّ الَّذين سمعوه بهتوا من فهمه وأجوبته (لوقا 2: 46-47).

ما لا يفقه له المعلِّمون اليهود أنَّ الربَّ هو الأقنوم الثاني المتجسِّد الواحد في الجوهر مع الآب والروح القدس. وأيضًا غفلوا عن ثمار الاتِّحاد بالربِّ والامتلاء من الروح، فنراهم يتعجَّبون من الرسولين بطرس ويوحنَّا كيف أنَّهما خطبا بالشعب بعد أن امتلآ بالروح، وكانا بالنسبة إليهم «عديمَي العلم وعامِّيَّين» (أعمال 3: 13). وبالرغم من قولهم بأنَّهما كانا مع يسوع، إلَّا أنَّهم لم يدركوا عمق هذا الكلام.

عمل الروح القدس لا يتوقَّف في الكنيسة، ولا عصر الآباء، من هنا قال بولس: «مَن عرف فكر الربِّ فيعلِّمه، ونحن لنا فكر المسيح» (1 كورنثوس 2: 16).

فالفرق بين أن نعطي تعليم الربِّ، وبين أن نقدِّم تعليمنا الخاصَّ شعرةٌ، ولكنَّه انزلاق ما بعده انزلاق، وانحدار ما بعده انحدار.

وعوضًا عن أن تدفعنا معرفتنا اللاهوتيَّة إلى أن نماثل القدِّيس يوحنَّا المعمدان بقوله: «يينبغي أنَّ ذلك (يسوع) يزيد وأنِّي أنا أنقُص» (يوحنَّا 3: 30)، نفعل العكس تمامًا، وننتشي بما ينطق به لساننا من أفكار وتخيُّلات تنزل من عقلنا دون الروح. وهنا نكون قد وصلنا إلى قمَّة الكبرياء أمِّ الخطايا، ويكون تواضعًا مزيَّفًا.

لهذا قال القدِّيس مكسيموس المعترف: «اللاهوت دون العيش شيطانيٌّ».

نحن اليوم في عصر يسهِّل نشر البدع بسهولة كبيرة، والحلُّ يكمن في فحص كلِّ ما يصلنا بتدقيق على ضوء الإنجيل، والرجوع إلى التفسير الصحيح، وأن نكون على يقين بأنَّ اللاهوت أُعطي لنا بالكامل، وليس فيه لا عتيق ولا جديد. فالاكتشاف الجديد هو أن نكتشفه نحن.

بالإضافة الى ذلك هناك معيار مهمٌّ جدًّا لا يجب إغفاله، وهو ما يترك الكلام تأثيرًا في نفوسنا. فالكلام المستقيم يعطي فرحًا، والكلام المبتدع يعطي تشويشًا.

«ذوقوا وانظروا ما أطيب الربَّ!» (مزمور 34: 8).

إلى الرّب نطلب.

[1]. «hairetikon / αἱρετικὸν / αἵρεσις / haíresis»

[2]. ἀνάθεμα, anathema: anatithenai, to dedicate ana-, up + tithenai, to place.

[3]. فرمليانوس أسقف قيصرية كبادوكيا (232-268م)