صوّت الكنيست الاسرائيلي منذ ايام على رفض الاعتراف الاحادي بدولة فلسطينية، اي بمعنى آخر، الرد على الضغوط الدولية (ومن بينها الحليف الرئيسي لاسرائيل اي الولايات المتحدة الاميركية) التي مورست على رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته، بوجوب فرض هدنة طويلة نسبياً لامتصاص نقمة الرأي العام، في ما خص الحرب على غزة والمجازر التي ترتكب بحق المدنيين الفلسطينيين في هذه البقعة الجغرافية الصغيرة. ولم يتأخر "بيبي" في حصد النجاح الذي حققه، لانه كان يدرك ان الحقد الحالي على الفلسطينيين من قبل المجتمع الاسرائيلي، هو السبيل الوحيد لضمان التفاف الاسرائيليين حوله، في ظل غضبهم منه على نكساته واخطائه قبل عملية "طوفان الاقصى" وبعدها. فكّر نتنياهو بما يمكن ان يضمن له الحصول على تأييد الناس، للخروج من فكّي الكماشة التي وقع فيها، فمن جهة يتعرض لضغوط دولية لمنع اتساع رقعة الحرب والتوصل الى هدنة (وليس وقف اطلاق نار) تسمح بترتيب الامور، ومن جهة ثانية ينتظره الاسرائيليون لمحاكمته على الفظائع التي ارتكبها في ملفات كثيرة وعلى عدم تعاطيه المسؤول مع قضية الاسرى. وبعد التفكير، رأى ان افضل دفاع للتهديدات الخارجية بالاعتراف الاحادي بدولة فلسطينية، هو عبر اظهار ان الرأي العام الاسرائيلي يقف خلفه في رفض هذا الامر. ولكن ماذا يعني عملياً هذا القرار؟

في المدى القصير، اظهر نتنياهو انه لا يزال قادراً على التحدث باسم اسرائيل، وان فشله في قيام دولة يهودية يعني عدم قبوله في قيام دولة فلسطينية، وهو ترك الباب مفتوحاً من خلال القول ان الامر يمكن ان يحصل انما عبر مفاوضات مباشرة، اي انه يجب ان يكون هو شخصياً ممر العبور لاي تسوية تؤدي الى اعطاء الفلسطينيين دولتهم، موجّهاً بالتالي رسالة الى من يعنيهم الامر (ومنهم الاميركي)، بأن محاولات استبداله او التنسيق مع المعارضة وغيرها من الوجوه السياسية لن تؤتي ثمارها.

اضافة الى ذلك، يجب الاعتراف بأن نتنياهو نجح في الوقوف على قدميه بعد اللكمة التي تلقاها في عملية "طوفان الاقصى" والتي انهكت كل محاولاته استكمال التطبيع مع الدول العربية حيث كان ينتظر ان يكلّل هذه الجهود بالتطبيع مع السعودية، لكن العملية في 7 تشرين الاول الفائت فرضت شروطاً جديدة لم يكن يتوقعها، واجبرت المملكة السعودية على التراجع وعدم المضي في مسار التطبيع الذي كان من شأنه تهميش حل الدولة الفلسطينية، بحيث يظهر وأن العرب تخلوا عن هذا الامر ولم يعد له قيمة، ويمكن في هذه الحالة ترتيب شؤون الفلسطينيين في الاراضي المحتلة باقل قدر ممكن من حقوقهم.

اما على المدى البعيد، فالخطورة تكمن في ان حلم الدولة اليهودية سيصبح اكثر قبولاً للتحقيق بعد النكسة التي تلقاها اخيراً، ولن يكون هناك من اصوات ترتفع لادانة اي سياسة استيطانية مستقبلاً مهما كان حجم الاراضي التي ستبتلعها، وسيجد الفلسطينيون في الاراضي المحتلة انفسهم وكأنهم وسط جزيرة واسرى لرغبات ومشيئة اسرائيل التي ستتحكم في كل مقومات استمرارية عيشهم، وهو امر بالغ الخطورة لانه يضع جهود عقود من الزمن في "سلة المهملات"، كما يقضي على آمال مئات الآلاف من الفلسطينيين في استعادة حقوقهم واراضيهم، وتحكم على الدول التي تستقبلهم على اراضيها ببقائهم الابدي فيها.

وبهذين الحلّين، يكون نتنياهو قد اجهز على الصراع العربي-الاسرائيلي ودفنه تحت تراب الدولة اليهودية التي سيعمل على انشائها من دون اي معارضة عربية او دولية، لتنهي اسرائيل الجزء الاخير من مسلسل مسار اثبات الوجود عبر شرعنته والغاء كل القرارات الدولية التي اعطت الفلسطينيين جزءاً مهماً من حقوقهم (ولو على الورق).

لعب نتنياهو على الوتر العاطفي للاسرائيليين، واستغل الوقت الحالي (اي وقت الحرب الذي يغلب فيه عمل المشاعر على عمل العقل) للحصول على التأييد الكاسح الرافض لاقامة دولة فلسطينية، مع المحافظة على حياته السياسية وابعاد شبح نهايتها وقتاً كافياً لاستنباط افكار اخرى للتعويض عن اللائحة الطويلة من الهزائم السياسية والدبلوماسية والميدانية التي تكبّدها منذ اشهر.