يكتب بولس الرسول إلى أهل أفسس أنَّه يصلِّي لهم كي يعطيهم الله روح الحكمة والإعلان في معرفته، وأن تستنير عيون «أذهانهم»، فيعرفوا دعوة الله لهم، وغنى مجد ميراث القدِّيسين (أفسس 17: 1-18).

النصُّ اليونانيُّ الأصليُّ يستعمل كلمة «καρδίας/kardias» الَّتي يمكن أن تُتَرجَم إلى ذهن وقلب وحتَّى عمق الإنسان.

في الهدوئيَّة «Hesychasme» تُستعمل كلمة «النوس Nous/νοῦς» للإشارة إلى الذهن «intellect/intelligence» ويُعنى بذلك العقل المتَّحد مع القلب، أي كلُّ أفكار الإنسان ومشاعره وأحاسيسه. فإذا استنار الذهن بعد جهاد وصلاة وصوم وتنقية وتوبة وتواضع وعيش المحبَّة الإلهيَّة والعمل بها، تألَّهَ الإنسان لا محالة.

فبولس إذًا يتكلَّم على العيون الداخليَّة أي حسن البصيرة.

الفنُّ الإيقونغرافيُّ الَّذي يترجم حالة التألُّه عند القدِّيسين يظهر هذا الشيء بعمليَّة تفتيح لون الوجه «carnation»، وباللون الأبيض الَّذي هو موضوع مقالتنا. فهذا اللون تحديدًا له مكانته الكبيرة في عالم الأيقونة ولاهوتها.

القدِّيس الأنطاكيُّ الَّذي عُرف باسم ديونيسيوس الأريوباغيِّ «Pseudo-Denys l’Aréopagite» (القرن الخامس - السادس) أتى في خضمِّ كلامه على الرمزية «Le Symbolisme»، على ذكر الألوان وما تشير إليه. فقال إنَّ اللون الأبيض يرمز إلى النور والمجد الإلهيِّ وقوَّة الألوهة. ويسوع قال عن نفسه: «أنا هو نور العالم. مَن يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة» (يوحنَّا 8: 12). إنَّه نور الحياة الأبديَّة.

ويذكر القدِّيس ديونيسيوس بُعدًا آخر للَّون الأبيض وهو غلبة الألوهة وانهزام كلِّ ما هو أرضيٌّ أمامها.

من هنا نرى لعازر في الأيقونة ملفوفًا بأقمطة بيضاء وخلفه سواد الموت المنهزم. فيسوع أخرجه من القبر لكي يحيا إلى الأبد في الملكوت السماويِّ، مع أنَّه كان سيموت ثانية جسديًّا.

هذا ما نحن مدعوُّون إليه، وهذا أيضًا ما تُظهِرُه أيقونة نزول الربِّ إلى الجحيم، حيث نرى لباس الربِّ أبيض، وكذلك آدم الَّذي يقيمه يسوع من بين الأموات. ولا ننسَ الأقمطة في أيقونة الميلاد الَّتي نعود نراها فارغة في أيقونة القبر الفارغ. يضاف إلى ذلك لون ثياب الملائكة في الأيقونة الأخيرة.

لهذا نجد الكنيسة في آخر يوم من زمن التريودي الَّذي هو سبت النور، تلبس اللون الأبيض وكذلك الكهنة.

هذه هي مسيرتنا مع يسوع، مسيرة نور لا يعروه مساء كما نرتِّل في خدمة سحر الفصح المجيد عندما يقف الكاهن أمام الباب الملوكيِّ حاملًا شمعة ليضيء المؤمنون شموعهم منه: «هلمُّوا خذوا نورًا من النور الَّذي لا يعروه مساءٌ، ومجِّدوا المسيح الناهض من بين الأموات».

ولا ننسَ طبعًا أيقونة التجلِّي الإلهيِّ، حيث أضاء وجهُ يسوع كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالنور (متَّى 17: 2).

حتَّى في أيقونة الصعود الإلهيِّ نجد أنَّ الملاكين اللذين يقفان خلف والدة الإله لباسُهما أبيض، لأنَّهما ملاكا القيامة المجيدة.

ويختم الكتاب المقدَّس أسفاره مع سفر الرؤيا، ليخبرنا عن أربعة وعشرين شيخًا جالسين على عروش حول العرش الإلهيِّ متسربلين بثياب بيض، وعلى رؤوسهم أكاليل من ذهب (رؤيا 4: 4)، وهم أتوا من الضيقة العظيمة، وقد غسَّلوا ثيابهم وبيَّضوا ثيابهم في دم الخروف، أي دم الربِّ يسوع المسيح الطاهر الَّذي سفكه على الصليب من أجلنا جميعًا.

هذه هي الحقيقة الكاملة بالربِّ يسوع، الَّتي كشفها الله لنا، وروت كلَّ من كان يبحث عن الحقيقة في العالم أجمع، لأنَّها مرتجى الأمم. وإذا بحثنا في صفحات تاريخ الفنِّ عند الشعوب لوجدنا أنَّ اللون الأبيض يرمز إلى الألوهة. ليس هذا الأمر مستغربًا على الإطلاق، لأنَّ البشريَّة كلَّها كانت تبحث عن خالقها، ولا يوجد شعب ليس عنده البحث الوجوديُّ، وقام بترجمته فنًّا وألوانًا.

كلُّنا يعرف لباس الفلاسفة قديمًا، ذاك الرداء الأبيض اللون الَّذي يرمز إلى الارتقاء إلى العلى والاتِّحاد بالإله الكونيِّ، والحكمة والعقل والمعرفة. فقالوا إنَّه بقدر ما يكتسب الإنسان المعرفة والحكمة يقترب من الحقيقة ويرتفع نحو الألوهة. لهذا قال كتابنا المقدَّس إنَّ يسوع هو الحكمة الأولى، وقبل كلِّ قراءة من الكتاب نفسه في خدمة الغروب الممتاز، يقول الكاهن: «حكمة لنصغ».

كما نجد في ملحمة الإلياذة (ق 8 ق م) أنَّ الأموات يُكفَّنون بالأبيض إشارة إلى الخلود. وكلُّ ما كان يتعلَّق بالذبائح والمذبح كان أبيض أيضًا. كذلك كان الفيلسوف Pythagoras (570-495 ق م) يطلب من تلامذته ارتداء رداء أبيض اللون عندما كانوا ينشدون الأناشيد المقدَّسة.

ولا يستغربنَّ أحد ما ذكرهSocratos (470 – 399 ق.م) أنَّ لباس الحداد على الأموات في مدينة Argos اليونانيَّة، والَّذي يعني اسمها «شيء يلمع ويبرق»، كان لونه أبيض.

حبَّذا لو نعتمد هذا الأمر كما تمنَّى مرارًا عديدة المتروبوليت جاورجيوس (خضر) ذلك عندما قال: "مشتهى قلبي أن أرى نساءً شجاعات يلبسن اللون الأبيض في المآتم، لأنَّ موتنا رقاد وانتقال إلى الحياة الأبديَّة."

ختامًا، زمن التريودي زمن توبة لولادة جديدة بالربِّ، زمن خلع لون الخطيئة الأسود والموت، وارتداء لون الطهارة الأبيض والنقاوة والقيامة، فدعونا نصغي إلى ما أعلن إشعياء النبيُّ: "اغتسِلوا. تنقَّوا... كفُّوا عن فعل الشرِّ... إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيضُّ كالثلج." (إشعياء 1: 16-18).

فلا ندع غروب حياتنا يكون على ظلمة، بل على ما نرتِّله في كلِّ خدمة غروب: «... يا يسوع المسيح إذ قد بلغنا إلى غروب الشمس ونظرنا نورًا مسائيًّا...» أنَّه النور البهيُّ نور الربِّ الَّذي ينير حياتنا ويقدِّسها.

إلى الربِّ نطلب.