في المبدأ، لم يعد يفصل سوى شهر واحد على الموعد "المفترض" للانتخابات البلدية والاختيارية المؤجَّلة منذ عامين، والتي قال مشرّعو التمديد للمجالس البلدية والاختيارية قبل عام إنّ حكومة تصريف الأعمال لن تنتظر عامًا كاملاً لإجرائها، بل إنّ مهلة العام وُضِعت كإجراء "احترازي" لا أكثر، وبوصفها "حدًا أقصى"، إلا أنّ شيئًا من ذلك لم يحصل، وأهمِل الملفّ طيلة العام، ليتصدّر الاهتمام في الآونة الأخيرة فقط، وسط حديث عن تمديد جديد.

فمع أنّ الترجيحات تشير إلى أنّ وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي سيصدر فعلاً خلال اليومين المقبلين مرسوم دعوة الهيئات الناخبة، عملاً بقانون الانتخابات الذي ينصّ على وجوب إصداره قبل شهر من تاريخ انعقاد الهيئات الناخبة، إلا أنّ الانطباع السائد هو أنّ تأجيل الانتخابات للمرّة الثالثة على التوالي أصبح "شبه محسوم"، بدليل أن أيّ تحضيرات للاستحقاق لم تبدأ بعد، كما أنّ الماكينات الانتخابية لم تتحرّك، بما فيها تلك العائدة للأحزاب الرافضة للتمديد.

بهذا المعنى، يعتقد كثيرون أنّ ما يجري حاليًا ليس سوى البحث عن "المَخرَج الملائم" لإنجاز الخطوة، المؤجَّلة عن سابق تصوّر وتصميم للحظة الأخيرة التي تقترب، ولو أنّ هناك من يتحدّث عن "تعقيدات" لا تزال تصطدم بها، ربطًا بالتجاذب الحاصل بين الحكومة ومجلس النواب، والإصرار على تقاذف كرة المسؤولية فيما بينهما، خصوصًا في ظلّ الفراغ الرئاسي الذي ينعكس شللاً على مستوى كلّ المؤسسات.

وإذا كان هناك من يرى أنّ ذريعة التمديد هذه المرّة قد تكون "أقوى من كلّ المرات"، بالنظر إلى الوضع الأمني الناشئ عن اشتعال الجبهة الجنوبية، والاعتداءات الإسرائيلية التي لم تعد محصورة بنطاق جغرافي ضيّق، فإنّ ثمّة علامات استفهام تُطرَح في المقابل، حول موقف "التيار الوطني الحر"، فهل يؤمّن "نصاب" جلسة التمديد كما فعل العام الماضي، أم أنّ اختلاف الظروف قد يفرض عليه مقاربة مختلفة شكلاً ومضمونًا؟!.

ليس خافيًا على أحد أنّ جميع القوى السياسية تبدو كمن "سلّم" بمنطق تأجيل الانتخابات البلدية والاختيارية، بعيدًا عن "المزايدات" التي يعتقد أصحابها أنّها لا تضرّ إن لم تنفع، فلا شيء في البلد يؤشّر إلى أنّ ثمّة انتخابات يمكن أن تجري خلال شهر، فضلاً عن أنّ التسريبات تؤكد رفض "الثنائي الشيعي" تحديدًا لإجراء الانتخابات في ظلّ حرب الجنوب، وكذلك رفضه لكلّ ما يُطرَح من بدائل، على طريقة "استثناء" الجنوب من الاستحقاق.

فمع أنّ فكرة "الاستثناء" هذه قد تجد "سوابق" في التاريخ غير البعيد، كما حصل مثلاً في العام 1998، في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي لبعض المناطق في جنوب لبنان، حيث جرت الانتخابات البلدية مع استثناء القرى والبلدات المحتلّة، التي عادت وانتخبت مجالسها المحلية بعد التحرير في العام 2000، إلا أنّ أوساط "الثنائي الشيعي" تؤكد أنّ الظروف مختلفة، وبالتالي فإن تطبيق مثل هذا السيناريو اليوم غير وارد بالمُطلَق.

فإضافة إلى أنّ الوضع تحت الاحتلال ليس نفسه الوضع في قلب البحر، ولو كان الاحتلال حالة غير مقبولة بالمُطلَق، تشير هذه الأوساط إلى "حساسيّة خاصة" قد تنطوي على مثل هذا "الاستثناء"، ولا سيما أنّ هناك من يتعامل مع الجنوب منذ اشتعال جبهته في الثامن من تشرين الأول وكأنّه "جزيرة معزولة"، بل إنّ هناك من لا يزال يسأل حتى الآن إن كانت الحرب ستصل إلى لبنان، متجاهلاً أنّها حاصلة أصلاً في الجنوب.

لكنّ هذا الرأي يصطدم برأي مقابل يقول إنّ "الثنائي" يتلطّى خلف ما يسمّيه "حساسية" لضرب استحقاق انتخابي ليس جاهزًا له، وهو الذي يربط كل الاستحقاقات بانتهاء الحرب على غزة، في وقتٍ قد تكون الانتخابات البلدية "حاجة" لأهل الجنوب قبل غيرهم، ليكون لهم مجالس بلدية تستطيع معالجة الوضع الناشئ عن الحرب، ولا سيما أنّ التأجيل المتكرّر للانتخابات أفضى إلى مجالس بلدية "مشلولة وعاجزة"، ما عادت قادرة على تحمّل مسؤولياتها.

في مطلق الأحوال، يقول العارفون إنّ قرار التأجيل "اتُخِذ"، بمُعزَلٍ عن النقاشات الدائرة هنا وهناك حول جدواه من عدمه، وإنّ ما بقي ليس سوى "حسم" الطريقة، وربما هوية "المتطوعين" الذين سيسهّلون تنفيذه، في ظلّ تكهّنات حول موقف "التيار الوطني الحر" تحديدًا، باعتبار أنّ مواقف "القوات" و"الكتائب" والتغييريين محسومة رفضًا للتمديد في الظاهر، وأنّ الحكومة تصرّ على أنّ التأجيل يجب أن يصدر عن مجلس النواب، لا عنها.

في هذا السياق، ثمّة من يعتبر أنّ "التيار" الذي أمّن نصاب "جلسة التمديد" في العام الماضي، قد يجد نفسه في موقف "صعب"، خصوصًا في ظلّ الاستقطاب المسيحي الحاد الذي تشهده البلاد حاليًا، والسجال القائم بينه وبين "القوات اللبنانية"، ما قد يعرّضه لمزايدات غير يسيرة، علمًا أنّ هناك من يسأل أيضًا عن انعكاسات "خلافه" مع "حزب الله" على مقاربته، ويلمّح إلى أنّ "التيار" لن يشارك في جلسة التمديد، "نكاية بالحزب"، وفق وصف البعض.

لكنّ أوساط "التيار" التي ترفض حسم الموقف بانتظار نضوج الظروف والمعطيات، تؤكد أنّ منطق "النكايات" ليس موجودًا في قاموس "الوطني الحر"، فما يقرّره ينسجم مع المصلحة الوطنية العليا، فإذا وجد أنّ إجراء الانتخابات البلدية متعذّر في الظروف الحالية، وأنّ البدائل المطروحة غير واقعية، فهو لن يتأخّر في قيامه بواجباته منعًا للفراغ في المجالس البلدية، كما فعل العام الماضي، بغضّ النظر عن كل الضغوط الممكنة.

وإذا كان خصوم "التيار" يعتقدون أنّ الوزير السابق جبران باسيل سيفعل ذلك، ليس من باب "رفضه النكايات"، ولكن لأنه "يزايد" أساسًا على "حزب الله" برفض الانتخابات، التي يخشى أن تكشف تراجع حجمه الشعبي، فإنّ هناك من يشدّد على أنّ التأجيل سيحصل حتمًا، وأنّ كلّ ما يُحكى عن "معسكرين مضادين" في هذه المسألة "تضليلي"، إذ إن جميع القوى متمسّكة بالتمديد، ولو أنّ بعضها يفضّل التظاهر بعكس ذلك، إذا لم يكن من ضرورة لصوته.

هكذا تدار السياسة في بلد الفراغ الرئاسي، الذي يتمدّد ليشمل كل المؤسسات. فمنذ سنتين، أصبح التمديد للمجالس البلدية والاختيارية هو القاعدة لا الاستثناء، وأصبحت المعارضة لمثل هذا "العرف" تقتصر على توظيفه للمزايدة وتسجيل النقاط ليس إلا، بعيدًا عن ايّ ضغط حقيقيّ يمكن أن يترجم على الأرض. فما الذي يمكن أن يبقى من المبادئ الديمقراطية وتداول السلطة، في بلدٍ ادّعى يومًا أنه "دولة القانون والمؤسسات"؟!.