هو بولُسُ الطَرسوسيُّ.

كان شاولُ الذي رامَ إلغاءَ إسمِ يَسوعَ مِن أفواهِ المؤمِنينَ، فَلاحَقَهُمُ مِن أورشَليمَ، "قاتِلَةِ الأنبياءَ وَراجِمَةِ المُرسَلينَ إليها" (متَّى 23/37)، إلى دِمَشق (ديماشقو الآرامِيَّةُ-الُلبنانِيَّةُ، الأرضُ المَسقِيَّةُ).

لَكِنَّ القائِمَ مِنَ المَوتِ ظَهَرَ لَهُ. وَعَلَّمَهُ أنَّ اللهَ شاءَ الإنسانَ مُتَّحِداً بِسِرِّهِ، وَذُروَةَ الإنسانِ أن يَتَقَبَّلَ ذاتَهُ مِنَ اللهِ، بإبنِهِ الوَحيدِ الذي تَقَبَّلَ ذاتَهُ مِنَ الآبِ: هو المَسيحُ أيقونَةُ الإنسانِ وَجَوهَرُهُ. مُحَرِّرُهُ مِنَ الداخِلَ أوَّلاً، حَيثُ السَلاسِلُ المُكِبِّلَةُ وأقفالُهَا.

مِن عالَمٍ رافِضٍ لِلرَبِّ ومُضرَجٍ بِدِماءِ الإنسانِ، دَعاهُ المَسيحُ إلى طَريقِ عَوالِمِهِ. إذ ذاكَ صَرَخَ: "حَياتي هيَ المَسيحُ" (فيليبي 1/21)، وَمعَهُ سارَ دَربَ صَليبَهِ، مِنَ اليَهودِيَّةِ الى عَرابيةَ الضامَّةِ مَملَكَةَ الأنباطِ، وَبُصرى وَحورانَ جَنوباً، وَغَزَّةَ غَرباً، إلى وادي سِرحانَ شَرقاً وَعَمّانَ وَجَرَشَ. فيها، شارَكَ في عَشاءِ الرَبِّ: "تَسَلَّمتُ ما سَلَّمتُهُ إليكُمُ، وَهوَ أنَّ الرَبَّ يَسوعَ لَيلَةَ أُسلِمَ فيها أخَذَ خُبزاً وَشَكَرَ وَكَسَرَهُ وَقالَ: هَذا جَسَدي، لِأجلِكُمُ. إعمَلوا هَذا لِذِكريَ. كَذَلِكَ أخَذَ الكَأسَ بَعدَ العَشاءِ وَقالَ: هَذِهِ كأسُ العَهدِ الجَديدِ بِدَمِّيَ. كُلَّما شَرِبتُمُ إعمَلوا هَذا لِذِكرِيَ» (1 كورِنتُسُ 11/23-25).

وَمِن هُناكَ، قَصَدَ إنطاكِيَةَ-الفينيقِيَّةَ-الُلبنانِيَّةَ، المَبنِيَةَ على العاصِي والطَريقِ الرابِطِ فينيقِيَةَ بِسورِيَا فَبِلادِ الرافِدَينِ، وَفيها "تَسمَّى التَلاميذُ أوَّلَ مَرَّةٍ بالمِسيحِيِّينَ" (أعمالُ الرُسُلِ 11/26)، مُثَبِّتينَ أسَسَيَّتَهُمُ على المَسيحِ، لا كَجَماعَةٍ يَهومَسيحِيَّةٍ داخِلَ ذاكَ العالَمَ اليَهودِيَّ. أثَّرَت عَلَيهِ وأثَّرَ فيها، على ما أورَدَ في رِسالَتِهِ لِغِلاطِيَةَ حَولَ "الحُرِّيَّةِ في المَسيحِ" (2/4) وَ"حَقيقَةِ الإنجيلِ" (2/5)، مُقيماً كِلتَيهِما صُلبَ السوتيريولوجِيَّةَ.

وإذ أدرَكَ أنَّ المَصيرَ والكَيانَ يَتمازَجانِ، وَكِلاهُما لَيسا إطارَينِ لِلتاريخِ بَل تاريخٌ يَنمو في الروحِ، حَيثُ الكِيانِيَّةُ والكَونِيَّةُ تَنتَهيانِ الى المَسيحِ وَفيهِ عَلامَةَ إنتِماءٍ، بَقِيَت لَهُ روما، ألفيها نَيرونُ يَحرِقُ المَسيحِيِّينَ لِإنارَةِ إستِذأباتِ تَألُّهِهِ. قَصَدَها... مِن صورَ، الكَنيسَةِ الأولى، بِعَودَةِ فِداءٍ لأُورشَليمَ. وَسألَهُ أهلُ صورَ "ألَّا يَصعَدَ لِأورشَليمَ"، وَإذ أبى، شَيَّعَهُ "جَميعُ التَلاميذِ مَعَ النِساءِ والأولادِ لِخارِجِها فَجَثا وإيَّاهُمُ عَلى الشاطِئِ وَصَلُّوا مَعاً." (أعمالُ الرُسُلِ 21/4-6). وَلَمَّا بَلغَ روما أسيراً كَتَبَ: "مَن يَفصِلُنا عَن مَحَبَّةِ المَسيحِ؟ أشِدَّةُ أم ضيقٌ أم إضطِهادٌ أم جوعٌ أم عُريٌ أم خَطَرٌ أم سَيفٌ؟... لا مَوتَ وَلا حَياةَ، وَلا مَلائِكَةَ وَلا رِئاسَاتَ، وَلا حاضَرَ وَلا مُستَقبَلَ، وَلا قُوَّاتَ، وَلا عُلوَّ وَلا عُمُقَ، وَلا خَليقَةً أخرى، بِوِسعها إقصَاءَنا عَن مَحَبَّةِ اللهِ الَتي في المَسيحِ يَسوعَ رَبِّنا." (روما 8/35-39).

وَفيها، قَطَعَ نَيرونُ رأسَهَ.

تَآونُ فُسُحاتِ الدَوامِ

مِن عَرابيَةَ، فإنطاكِيَةَ، فَروما، صورُ-البِدايَةُ تآونُ الدَوامِ. فيها بولُسُ قائِمٌ في المَسيحِ وَلَهُ، يِرصُفُ إيماناً بِمَن هوَ "الكُلُّ لِلكُلِّ" (1 كورِنتُسُ 15/28)، ضابِطاً الأصلَ والواقِعَ.

تِلكَ شَجاعَتُهُ. تَتَغَلَّبُ بِحِكمَةِ اللهِ. وهِـيَ "غَيرُ حِكمَةِ هَذا العالَمِ ورُؤَسائِهِ" (1 كورِنتُسُ 2/6) وَبِها سُلطانُهُم لِزَوالِ.

تِلكَ شَجاعَتُهُ. تَغلِبُ بِوَقفَةِ المَحَبَّةِ التي "لا تَستَجدي" (1 كورِنتُسُ 13/4) الشَرَّ الذي لا يُغلَبُ بالشَرِّ.

وسِرُّ بولُسُ، اليَهودِيُّ الغاديُ رَسولَ الأُمَمِ... أنَّهُ مِن لبنانَ. مِن جَيسكالا-الجِشَّ الصورِيَّةِ، مَسقِطِ رأسِ عائِلَتِهِ، حَيثُ عاشَ قَبلَ إنتِقالِهِ لِطَرسوسَ-قيليقِيَةَ، على ما يُؤَكِّدُهُ القِدِّيسُ جيروم أعظَمُ آباءِ الغَربِ، Aiunt parentes apostoli Pauli de Gyscalis)) وَيوسابيوسُ القَيصَرِيُّ ألمِن قَيصَرِيَّةِ فيليبُّسُ على سَفحِ حَرَمونِنا، أبُ التاريخِ الكَنَسِيِّ.