خرقت جريمة خطف وقتل منسّق حزب "القوات اللبنانية" في منطقة جبيل باسكال سليمان "جمود" عطلة الأعياد الطويلة في لبنان، لكنّها أثارت أيضًا الكثير من الهواجس، وأعادت فتح ملفات كانت مهددة بالنسيان، من قضية النزوح السوري الشائك مروراً بعصابات الخطف والإجرام، وصولاً إلى السلاح المنتشر بين اللبنانيين. لكنّ الجريمة أحيت أيضًا خطابًا "طائفيًا" ظنّ الكثير من اللبنانيين أنّه ولّى، وهم الذين يستذكرون هذه الأيام ذكرى حربٍ أليمة، قد يختلفون على "تشخيص" أسبابها المباشرة وغير المباشرة، لكنهم يتّفقون على دورها في تكريس انقسام مذهبيّ ومناطقيّ بين "غربية" و"شرقية" لم تستطع السنوات اللاحقة أن تمحوه أو تزيله، وهو ما تكرّر بعد جريمة جبيل، مع انتشار دعوات التسليح والأمن الذاتي، وصولاً الى حدّ التهديد بعمليات خطف "مضاد".

وإذا كانت "القوات اللبنانية" دعت إلى انتظار نتائج التحقيق قبل توجيه الاتهامات، وذلك قبل أن تتكشّف فصول ومعالم الجريمة، فإنّ هناك من يعتبر أنّها سارعت أيضًا إلى القفز فوق التحقيقات، حين تمسّكت بروايتها حول تعرّض منسّقها لعملية "اغتيال سياسي" حتى إثبات العكس، ووضعت "حزب الله" في قفص الاتهام ولو لم يكن مذنبًا، باعتبار أنّ مجرّد "سلاحه غير الشرعي" أدّى إلى تعطيل دور الدولة، ما أفسح في المجال أمام عصابات السلاح.

وفي حين يرى البعض أنّ "القوات" لعبت دورًا في احتواء "التشنّج" حين دعت إلى إخلاء الساحات، ثمّة علامات استفهام تُطرَح عن "مغزى" حديثها وسط كلّ هذه الفوضى، عمّا وصفته بـ"جزيرة حزب الله المولّدة للفوضى"، فلماذا تذهب "القوات" إلى هذا الحدّ في مقاربتها لجريمة قتل سليمان؟

في المبدأ، يتحدّث العارفون عن مجموعة من "التراكمات" التي جعلت ردّة الفعل على جريمة خطف منسّق "القوات اللبنانية" بهذه القوة، حتى قبل أن تُعرَف نهايتها "المأساوية"، وهي "تراكمات" تقاطعت على تغذية نوع من التشنّج، قد يكون ذا طابع طائفي ومذهبي، ولو أنّ المعنيّين يفضّلون إعطاءه الطابع "السياسي"، باعتبار أنّ المشكلة بين "القوات" وما تمثل من جهة، و"حزب الله" وما يمثل من جهة أخرى، سياسية بل "سياديّة" في المقام الأول.

هذه "التراكمات" قديمة وليست وليدة اليوم، واثبتت حضورها في الاشهر القليلة الماضية. ولعلّ الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي اختار "حزب الله" أن يدخل على خطّها بفتح ما وصفها بـ"جبهة الإسناد" في جنوب لبنان، "غذّت" وربما "فاقمت" هذا التوتّر.

اضافة الى كل ما سبق، هناك عدّة عوامل اجتمعت على خطّ هذه الجريمة لترفع حجم الهواجس، بدءًا من الموقع الجغرافي في منطقة تُصنَّف على أنّها "مختلطة"، وصولاً إلى هوية الشخص المُستهدَف، ما أبعد فرضية "الحادث"، علمًا أنّ المسؤولية في تكريس مثل هذه المقاربة تقع على عاتق القوى السياسية المجتمعة، التي غذّت المنطق "الطائفي" على مدى الأشهر الأخيرة.

في هذا السياق، ثمّة من يتحدّث عن "تجاوزات" حصلت، كادت أن تودي بلبنان الى كارثة لو لم يتمّ احتواؤها، علمًا أنّ هناك من يحمّل مسؤولية ذلك لطرفي المعادلة ورفع سقف التخاطب بينهما.

وفي حين لام البعض القوات على تمسّكها بفرضية "الاغتيال المباشر" واتهامها الحزب بجريمة سياسية حتى يثبت العكس، وتحميل الحزب مسؤوليتها ولو من دون الاعلان عن ذلك جهاراً، ترفض اوساطها هذا الامر، وتصرّ على "حقها المشروع في التشكيك بالرواية المتداولة حول الجريمة التي يعتريها العديد من الثغرات"، وهو امر يصبّ في خانة رفض توظيف الجريمة في غير موضعها.. وتضيف الاوساط نفسها ان "إقحام" سلاح "حزب الله" وسط هذه "المعمعة"، لا يُعتبر توظيفًا سياسيًا للجريمة، بل يعبّر عن منطق سياسي طبيعي. وترى الاوساط ان هذه الجريمة شكّلت دليلاً آخر على وجود "مشكلة حقيقية" يمثّلها الحزب، وقد ظهر ذلك جليًا برد الفعل العفوي النافر لـ"المزاج الشعبي المسيحي" بشكل عام، بما في ذلك أغلبية جمهور "التيار الوطني الحر"، وهو ما له دلالاته العميقة.

في النتيجة، قد تضيع "المسؤوليات" في محاولة "تشخيص" أسباب انتشار الخطاب الطائفي بعيد جريمة جبيل، بمعزل عن دوافعها الحقيقية، وما إذا كانت سياسيّة أم أمنيّة، لكنّ الأكيد أنّ مسؤولية القوى السياسية تكمن في التوقف عند هذه الاحداث وأخذ العبر، وعدم الامتفاء باحتواء الشارع في هذه اللحظة الدقيقة، بل لمراجعة أداء عام وشامل، يمكن أن يؤدي تجاهله إلى تحوّل أيّ حادثٍ صغير مستقبلاً، إلى سبب مباشر لصدام أكبر، لا يمكن لأحد أن يتكهّن كيف يمكن أن ينتهي!