صحيح أنّ العالم كان بمجمله مستنفرًا ومتأهّبًا للردّ الإيراني على الهجوم الإسرائيلي على القنصلية في دمشق، وكأنّ هناك من تعمّد تسريب موعد "الساعة الصفر"، ولا سيما أنّ الرد جاء "متأخّرًا" برأي كثيرين، لكنّ الصحيح أيضًا أنّ العالم بمجمله "حبس أنفاسه" على وقع الهجوم، الذي وُصِف بالتاريخي وغير المسبوق، باعتبار أنّها أول عملية مباشرة من هذا النوع تشنّها إيران ضدّ إسرائيل، بشكل مباشر، وليس عبر من يوصَفون بالوكلاء.

وكما يحصل في كلّ مرة، حيث ينسب كلّ طرف "الانتصار" لنفسه، وفق مقاربته الخاصة، كان لافتًا "تفاوت" التقديرات حول طبيعة الهجوم وحجمه، بين إسرائيل التي أعلنت "إحباطه" وتحدّثت عن اعتراض "99 بالمئة" من الطائرات المسيّرة والصواريخ التي أطلقت، بمساعدة حلفاء تتقدمهم الولايات المتحدة، وإيران التي أشارت في المقابل إلى أنّ "نصف الصواريخ التي أُطلِقت قد أصابت هدفها بنجاح"، وتحدّثت عن "أضرار جسيمة" أصابت قواعد عسكرية إسرائيلية.

لكن أبعد من النتائج المباشرة للهجوم على مستوى الخسائر الحيوية والإصابات البشرية، لا شكّ انّ "الرسائل" التي انطوى عليها الهجوم الإيراني تبقى أهمّ، ولا سيما أنّه لم يبدُ شكليًا، أقلّه في الظاهر، خلافًا للاعتقاد، وأدّى لكسر المزيد من قواعد الاشتباك في المنطقة ككلّ، حتى إنّ هناك من اعتبر أنّ تاريخ الرابع عشر من نيسان أصبح "موازيًا" لتاريخ السابع من تشرين الأول، لجهة "كسر" ما تبقّى من هيبة "الردع" الإسرائيلية، إن جاز التعبير.

استنادًا إلى ذلك، يفتح الردّ الإيراني على إسرائيل، بمعزل عن حقيقة "إحباطه" من جانب إسرائيل، أو نجاحه في تحقيق الأهداف المنشودة منه، الباب واسعًا أمام تكهّنات بالجملة، وتساؤلات حول "سيناريوهات" ما بعده، فهل يقود المنطقة التي باتت "تغلي" بكلّ ما للكلمة من معنى، إلى المزيد من "الغليان"، وبالتالي إلى التصعيد الذي قد يصل لحدّ "الحرب الشاملة"، أم أنّ "احتواءه" قد يكون أسرع، وهو ما بدأ العمل عليه أميركيًا وغربيًا؟!.

في المبدأ، يقول العارفون إنّه حتى لو صحّت الرواية الإسرائيلية التي تتحدّث عن "إحباط" الهجوم الإيراني بنسبة تسعة وتسعين في المئة، ما يعني أنّ الصواريخ والمسيرات الإيرانية لم تحقّق أهدافها، بل لم تصل إليها في المقام الأول، بعدما تمّ اعتراضها في الجو، فإنّ ذلك لا يقلّل من أهمية الهجوم، الذي أرادت إيران أن توجّه من خلاله "رسائل ردع" إلى إسرائيل، في مواجهة الاعتداءات المتكرّرة على قياداتها، خصوصًا في سوريا.

لعلّ "الرسالة" الأولى في هذا السياق، تكمن في أن الرد وخلافًا للكثير من التحليلات التي سبقت، لم يكن "شكليًا"، وذلك إن دلّ على شيء، فعلى أنّ طهران "المُحرَجة" من نوع الهجمات الإسرائيلية التي استهدفتها في الأشهر القليلة الماضية، بل ربما في السنوات الأخيرة، والتي زادتها ثابتة "الزمان والمكان المناسبين" إحراجًا، أرادت أن تقول إنّ عدم رغبتها بتوسيع الصراع، لا تعني أنّها "عاجزة" بالفعل عن المواجهة.

وهنا تأتي الرسالة الثانية من الهجوم، وفق العارفين، والتي تتكامل مع الأولى لناحية "الردع"، ومفادها أنّ الهجوم غير الشكلي، لم يكن ضعيفًا أيضًا، بغضّ النظر عن النتائج التي حقّقها على الأرض، علمًا أنّ الإيرانيين لم يقولوا إنّهم استخدموا "أقوى ما لديهم"، بل إنّ المحسوبين عليهم أوحوا بأنّ ما حصل ليس سوى "عيّنة أولى"، بمعنى أنّ أيّ رد إسرائيلي مضاد سيقود بطبيعة الحال إلى ردّ "أقوى" من الجانب الإيراني.

وتبقى الرسالة الأهم، والتي تُستنتَج من كلّ ما سبق، وجوهرها "تعديل حيوي" في قواعد الاشتباك المعمول بها، علمًا أنّ المؤيّدين لطهران يتهمون تل أبيب بإسقاط كلّ هذه القواعد منذ السابع من تشرين الأول الماضي، وبالتالي فإنّ إيران التي بقيت ملتزمة بهذه القواعد، سواء مباشرة أو عبر وكلائها، تقول إنّها لن تسكت على استهدافها، وإن "نوم إسرائيل على حرير" اطمئنانها بأنّ إيران لا تريد الانجرار إلى الحرب، لا يمكن أن يطول.

في مواجهة هذه الرسائل التي يستند إليها المؤيدون للرد الإيراني، بل المتحمّسون له، ثمّة بين خصوم إيران من يقلّل من شأنها، بل يعتبر الهجوم بمثابة "تمثيلية" لا أكثر ولا أقلّ، حتى إنّ هناك من لا يتردّد في الحديث عن "مسرحية منسَّقة ومتّفَق عليها" بين مختلف الأطراف، وفق قاعدة "تردّ إيران لحفظ ماء الوجه، ويعود كلّ شيء إلى ما كان عليه سابقًا"، لكن هل من ضمانات بأنّ هذا ما سيحدث فعلاً؟!.

بالتأكيد لا ضمانات، يقول العارفون، لأنّ كلّ شيء يبقى مرهونًا لطبيعة التعامل الإسرائيلي مع الهجوم الإيراني، حيث تشير المعطيات إلى أنّ الحكومة الإسرائيلية وإن أظهرت الهجوم الإيراني "فاشلاً"، وتحدّثت عن "إنجاز استراتيجي" بإحباطه، كما قال مسؤولوها، إلا أنّها لا تستطيع "تمريره" من دون أيّ ردّ عمليّ، لأنّه شكّل عمليًا مسًّا بهيبتها، وهو ما يثير بالتالي مخاوف من الدخول في موجة "ردود على الردود"، تُبقي كلّ الخيارات والسيناريوهات واردة.

لكن، في مقابل سيناريو "التصعيد" الذي قد يفضي إليه الردّ الإسرائيلي، إن حصل، ثمّة سيناريو يميل أكثر نحو "التهدئة"، باعتبار أنّ الهجوم الإيراني الذي حظي بنصيبه من "التنديد الغربي"، يبقى محصورًا في خانة "ردّة الفعل" على الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية بدمشق، وهو ما تقول إيران إنّه يندرج ضمن خانة "الدفاع عن النفس" الذي تشرّعه المواثيق الدولية، وهو ما يمكن أن يشكّل "مَدخَلاً" لإنهاء التصعيد، وعدم مفاقمة التوتر.

وبحسب ما يتوافر من معطيات، يبدو أنّ الولايات المتحدة تشجّع هذا التوجّه، وهو ما أكّدته بعض التسريبات الواردة في وسائل إعلام أميركية، والتي أشارت إلى أنّ الرئيس جو بايدن أبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنّ الولايات المتحدة لن تشارك في أي هجوم إسرائيل مضاد على إيران، كما لفتت إلى أنّ بايدن وكبار مستشاريه يشعرون بقلق بالغ من أنّ الرد الإسرائيلي يمكن أن يؤدي إلى حرب إقليمية ذات عواقب كارثية.

ويقول العارفون إنّ مثل هذه الحرب قد تكون "آخر" ما يتمنّاه بايدن في الأشهر الأخيرة من ولايتها، التي يطمح لتجديدها، علمًا أنّ موقفه "المنحاز" عل خط الحرب الإسرائيلية على غزة أضرّت بوضعه الانتخابي، ولم تخدمه، في ظلّ الكثير من الضغوط التي تعرّض لها، فضلاً عن "المزايدات" التي يواجهها بها خصمه الرئيس السابق دونالد ترامب، وآخرها قوله إنّ الهجوم الإيراني لم يكن ليحدث، "لو كان هو في السلطة".

في النتيجة، يبدو أنّ الثابت الوحيد وسط كلّ هذه التطورات المتسارعة، هو أنّ المنطقة "تغلي"، وأنّها فعلاً أمام خيارات مفصليّة وصعبة، فما بعد الردّ الإيراني، يبقى السباق على أشدّه بين الخيارين الدبلوماسي والعسكري، ولا سيما أنّ الرجوع إلى الوراء لم يعد مُتاحًا، ما يعني أنّ أيّ عمل عسكري من أيّ طرف يمكن أن يفتح أبواب الحرب الشاملة، خصوصًا بعدما أصبحت قواعد الاشتباك المتعارف عليها، في خبر كان!.