ثبّتت ايران واقعاً جديداً في الاقليم، قائماً على جرأتها في الرد على اسرائيل. لا تُقاس المسألة بحسابات الخسائر البشرية والمادية. بل تنطلق من حقيقة أنّ ايران ارسلت مسيّرات وصواريخ عبرت حدود دول عدة، ووصل بعضها ليصيب الهدفين اللذين حددتهما طهران: القاعدة الجوّية التي انطلقت منها طائرات f 35 في النقب، ومركز الاستخبارات الاسرائيلية في جبل الشيخ الذي قدّم المعلومات لتلك الطائرات، لإستهداف القنصلية الايرانية في دمشق. ما عدا ذلك، من استعراض المسيّرات الايرانية في اجواء الاقليم، كان بهدف خلق صدى اعلامي، لخدمة القرار الايراني.

لماذا؟ وما هي خفايا هذا القرار؟

بدأت القصة يوم ارادت اسرائيل ان تفرض على طهران، وقف إشغال تل ابيب في الجبهات العراقية واليمنية واللبنانية، والدعم اللوجستي السوري، في زمن الحرب على غزة. استهدفت تل ابيب القنصلية الايرانية في دمشق، التي كان وصل اليها المسؤول في الحرس الثوري عن ملفي لبنان وسوريا. كان يُمكن لإسرائيل ان تستهدفه خلال انتقاله من مطار دمشق الى المزّة، لكنها تقصّدت اذية ايران معنوياً.

لم تكن تل ابيب تتوقع رداً ايرانياً، نتيجة الضربة. بل اعتقد الاسرائيليون ان طهران سوف تمضي في "الصبر الاستراتيجي"، او تضطر الى الإذعان بوقف مشاغلة إسرائيل في الجبهات المذكورة.

لكن الايرانيين درسوا الخطوة بجدٍ، ومارسوا حرباً نفسية ضد الاسرائيليين، في وقت التفاوض مع الاميركيين، عبر سلطنة عُمان، واتخذوا القرار بالرد في إطار حسابات ايران الدولة، وليس ايران الثورة.

نجحت طهران في حربها النفسية، الى حد ان إسرائيل عاشت اياماً عصيبة، وصلت في وقت الرد الايراني، الى شل الدولة الاسرائيلية بالكامل، ووقف مطاراتها وحركتها الاقتصادية، ومظاهر الحياة فيها، لمدة ساعات.

التزمت ايران الدولة امام الاميركيين بمعادلة: ردٌ قوي من دون اذية. فلم تستهدف طهران المدنيين، ولا المؤسسات الاسرائيلية، ولا المرافئ او المطارات، ولا البُنى الفوقية او التحتية. بل صوّبت على مطار عسكري مسؤول عن ضربة القنصلية، ومركز استخبارات معني بإستهداف المسؤول الايراني، لا غير.

في الخفايا ان ايران استخدمت مسيّرات وصواريخ ليست الاحدث عندها، بل لجأت الى تلك الانواع العادية، في عملية استعراض جوّي، حددت توقيتها بمعرفة الدول، وتركت العواصم الغربية ترصد مسارها، لتتفرّج على الاميركيين والبريطانيين والفرنسيين، وهم يقومون بإسقاط معظمها، وتتقصّد ايصال الصواريخ التي تريد عبرها استهداف تلك القاعدة الجوية ومركز الاستخبارات، فقط.

هنا تبرز اهمية الرغبة الايرانية بالرد، من دون فتح الحرب، بل فرص واقعة ان إسرائيل عاجزة عن حماية نفسها من دون تدخل الاميركيين تحديداً. ولو ارادت ايران تحقيق اذية وفتح الحرب، لكانت ارسلت مسيّرات اكثر فاعلية، وصواريخ اسرع واكثر دقّة وضرراً. او كانت ارسلت تلك المسيرات من اماكن قريبة، واوكلت الى حلفائها القيام بالمهمة الفعّالة. لكن طهران ارادت ان تتصرف بنفسها، ومن ضمن ضوابط دقيقة وضعتها ايران الدولة، في عملية حسابات يقرأها الاميركيون جيداً.

في الخفايا، ان الاميركيين علموا مسبقاً عبر السويسريين والعُمانيين ان الرد لن يكون مفتوحاً، ولن يسبّب حرباً، وهو تعبير يفيد ان ايران تريد استكمال التفاوض مع واشنطن، بعدما اصبحت طرفاً موثوقاً به وبإلتزاماته.

تعاملت الدول العربية بحكمة مع التصرف الايراني. تحديداً، اتت مواقف الدول الخليجية حيادية، لتؤكد ان عواصم الخليج ترغب بثبات الإتفاق مع ايران على حُسن الجوار، وابقاء التعاون الاقتصادي والامني والسياسي. يُمكن قراءة ابعاد بيان دولة الامارات العربية المتحدة عن وجوب وقف التوتر. وتأكيد السعوديين عدم تدخّلهم، وحرصهم على العلاقات مع طهران.

ماذا بعد؟

استطاعت ايران ان تخاطب الاميركيين بأنها قوة اقليمية فعلية، وهي جاهزة لكل الاحتمالات، لكنها ترغب بعدم التصعيد، وضبط استقرار الاقليم، غير ان المشكلة هي في العدوان الاسرائيلي على غزة. واذا ارادت تل ابيب ان تكمل حربها في رفح، فهي لن تصل الى نتيجة، بسبب صمود فلسطيني في تلك المنطقة، قادر على صدّ الاجتياح الاسرائيلي. علماً ان الاميركيين والبريطانيين والفرنسيين الذين وقفوا الى جانب إسرائيل، وصدّوا مسيّرات وصواريخ ايران، لا يتحملون دولياً خطوة اسرائيل في رفح، لوجود مليون ونصف مدني فلسطيني، لا يمكن تركهم لمصيرهم تحت النار او التهجير.

لذلك، باتت تواجه اسرائيل واقعاً مريراً: القرار الاميركي بحمايتها لن يسمح بطحن رفح. وهو القرار ذاته الذي سيدعوها مجدّداً الى القبول بواقع المفاوضات الاميركية-الايرانية.

فلننتظر، ريثما يتضح المسار الاسرائيلي، بفعل الضغوط الغربية التي ستزداد بعد الرد الايراني.