ظهرت بشكل مفاجئ مسألة اكتسبت حجماً اكثر مما يجب ان تحمل، وتتعلق بتسريب حول نيّة اميركية في فرض عقوبات على كتيبة "نيتساح يهودا" العسكرية الاسرائيلية بسبب فظائع ارتكبها اعضاء هذه الكتيبة بحق فلسطينيين مدنيين في غزة. وتابع الكثير من الاسرائيليين والاميركيين تطورات هذه القضية، وانقسمت الآراء بين مؤيد ومعارض، خصوصاً وانّها المرة الاولى التي يمكن ان تتعرض فيها وحدة قتالية اسرائيلية فاعلة لعقوبات من الولايات المتحدة الاميركية، فيما اعتبر رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو وعدد من المسؤولين الاسرائيليين السياسيين والعسكريين، ان معاقبة هذه الكتيبة سيكون غير منطقي وغير اخلاقي، على حد تعبيرهم.

وطغى هذا الموضوع على كثير من مواضيع اكثر اهمية بكثير، ويجب متابعتها بدقّة واتخاذ القرارات المناسبة بشأنها لانها قادرة على التأثير على مستقبل المنطقة ككل، غير ان الدعاية التي اكتسبتها العقوبات المنتظرة، نجحت في حجب النظر -ولو موقتا- عن سواها من الامور. ولكن فعلياً، هل تستحق هذه المسألة كل هذا الاهتمام؟ في الواقع، حتى ولو تم فرض العقوبات المتوقعة على الكتيبة المقاتلة، فجلّ ما ستتعرض اليه مع عناصرها هو عدم الاستفادة من المساعدات اللوجستيّة والعسكريّة الاميركيّة، ومنع العناصر من متابعة الدورات الاميركية. اي بمعنى آخر، لن يكون هناك اي تأثير فعليّ اذا ما تم اقرار العقوبات، وستكون الضجة التي أثيرت، مجرد جعجعة لن تقدّم ولن تؤخّر. وما يزيد من صحة هذا القول، هو ان هذه الكتيبة تحديداً "مشبوهة" وتضم رجالاً من اليمين المتشدّد لم تتمكن ايّ كتيبة اخرى في الجيش الاسرائيلي من ضمّهم، كما سبقتها سمعتها الاكثر سوءاً من باقي الوحدات القتالية الاسرائيليّة، اذ بسبب تصرفات عناصرها العنيفة وغير الانسانية ضد الفلسطينيين، كانت "العقوبة" مع بداية العام الفائت، نقل الكتيبة من الضفة الغربية الى الجولان، وهذه كانت اقسى عقوبة تعرضت لها "نيتساح يهودا"، ومن الطبيعي القول انها لم تترك اي أثر على تصرفات العناصر، لانّها (اي العقوبات) لم تكن جدّية ولا عملية.

اليوم، قامت اميركا بهذه "المسرحية" وروّجت انها ستفرض عقوبات على اعضاء الكتيبة المذكورة، من دون التعرّض لممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة، ولا منعهم من التصرف بها، او المطالبة بعدم التعامل معهم في اي بلد في العالم، على غرار كل الاشخاص والشركات والمؤسسات التي تتعرض لعقوبات اميركية، ما يعني انها مسرحية بكل ما للكلمة من معنى، وان المراد منها هو التأثير المعنوي فقط لا غير. ففي حال تم فرض هذه العقوبات، ستظهر الادارة الاميركية الحالية انها قامت بما لم تقم به اي ادارة اميركية سابقة، انما يبقى السؤال: ما هي الفائدة من هذه العقوبات وما الذي سيتغيّر في التصرفات الوحشية لاسرائيل تجاه الفلسطينيين في غزة، وحتى في الضفة الغربية؟ اما الفائدة المرجوّة فستكون في تسويق الرئيس الاميركي جو بايدن، على انه المناصر الاول للانسانية، وان دفاعه الاعمى عن اسرائيل لم يمنع واشنطن من فرض عقوبات على وحدة قتالية في الجيش الاسرائيلي للمرة الاولى في التاريخ، علّ ذلك يغيّر طريقة نظر العرب والمتعاطفين معهم في الولايات المتحدة، الى ادارة بايدن والى عدم الدعوة لمقاطعته في الولايات التي يتوقع فيها الفوز على الجمهوريين، مع استعار معركة كسب الاصوات في الانتخابات الرئاسية الاميركية.

لم تكن المسألة تستأهل كل هذه الدعاية، ولكن الاميركيين اصرّوا على ذلك، لانها تظهرهم ممسكين بالعلاقة مع الاسرائيليين، وقادرين على افهام نتنياهو وصحبه، ان واشنطن تتحكم بالموقع الجغرافي للعبة وبعناصرها، ويجب مراعاتها وعدم تحدي ارادتها. اما اعضاء "نيتساح يهودا" فسينامون ملء اعينهم من دون ان يرفّ لهم جفن، وسيحلمون بكيفية زيادة قتلاهم من الفلسطينيين، ليقفلوا الستار على هذا الفصل من المسرحية، في انتظار فصل آخر لن يكون بعيداً.