نتوقَّف في خضمِّ مسيرتنا الصياميَّة –زمن التريودي- في محطَّة قياميَّة حيث يُغلَب نظام الطبيعة وتعجز الألسنة عن وصف ما يحدث. نتوقَّف أمام قبر أنتن المائت فيه لوجوده في داخله أربعة أيَّام. الحياة توقَّفت هناك وخيَّم الحزن على المحلَّة، وخاصَّة على أختَي الفقيد لعازر، مريم ومرتا.

كانتا تتمنَّيان لو كان الربُّ يسوع المسيح، صديق أخيهما المائت، موجودًا عندما كان طريح الفراش. فلمجرَّد أن عرفت مرتا أنَّ يسوع جاء ركضت إليه وقالت له: «يا سيِّد، لو كنتَ ههنا لم يمت أخي!». وباقي الحوار الَّذي دار بينهما يُدخلنا في صلب الخلاص، إذ أكملت مرتا: «لكنِّي الآن أيضًا أعلم أنَّ كلَّ ما تطلب من الله يعطيك الله إيَّاه». عندها أجابها يسوع أنَّ أخاها سيقوم. فظنَّت أنَّه يتكلَّم عن اليوم الأخير، وأثنت بأنَّها تعرف ذلك. عندها أعلن لها الربُّ أنَّه القيامة والحياة، والَّذي يؤمن به لا يموت. وسألها عمَّا إذا كانت تؤمن بذلك. وما أجمل جواب مرتا: «نعم يا سيِّد. أنا قد آمنت أنَّك أنت المسيح ابن الله، الآتي إلى العالم».

جوابها مثل جواب بطرس الرسول. ولكن هل كانت الصورة مكتملة عندها؟ فالعهد الجديد يظهر مليًّا أن بطرس والرسل اكتملت الصورة عندهم بعد حلول الروح القدس عليهم في يوم العنصرة وليس قبل إطلاقًا.

حالة مرتا كحالتنا، كذلك أختها مريم الَّتي تبعتها وقالت ليسوع الأمر نفسه: «يا سيِّد، لو كنت ههنا لم يمت أخي!».

كلنا بحاجة إلى حضور ملموس ومنظور. ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ مريم ومرتا انطلقتا من صنع الربِّ للعجائب وشفائه للمرضى وإقامته لابنة يايرس وابن الأرملة. لكنَّهما بقيتا أسيرتَي المقاييس الأرضيَّة، اذ اعتبرتا أنَّ غياب يسوع وقت مرض شقيقهما حرم الأخير الحياة. ونسيتا أنَّ يسوع هو الحاضر الدائم، ولا زمان ولا مكان يحدُّه ولكنَّه يتنازل إلى مستوى عقلنا ليرفعنا اليه.

بالمقابل طرُق الربِّ تختلف عن طرُقنا، فيسوع عرف بمرض لعازر ومكث حيث كان عمدًا قائلًا لتلاميذه بأنَّ مرض لعازر ليس للموت «بل لأجل مجد الله، ليتمجَّدَ ابنُ الله به».

وهذا تمامًا ما حصل. فلمجرَّد أن وطئت قدما يسوع المكان حتَّى اشتعلت الحياة فيه من جديد. حضوره كشف كلَّ شيء وفرز الناس. أختا لعازر تبكيان على قدميه. الفرِّيسيُّون حامقون ويقولون في نفوسهم: «ما الَّذي أتى بهذا المشاغب إلى هنا؟». فهم كانوا يخافون منه حسدًا، إذا بدأوا يشاهدون كيف كان الناس يتبعونه، وبدأوا يتهامسون ليروا ماذا سيفعل أمام صديقه الَّذي خرجت منه الحياة. وآخرون قالوا: «ألم يستطع أن يبقي صديقه على قيد الحياة، وهو الَّذي فتح عينَي الأعمى؟».

عرف يسوع في تلك اللحظة كلَّ مكنونات القلوب، وتقول الآية بأنَّه انزعج. في الماضي انزعج يسوع من ظلمة قلوب اليهود وعدم إيمانهم وبعدهم عن الخلاص، وينزعج كلَّ مرَّة من الَّذين يماثلونهم. فانزعاجه ينبثق من محبَّته لنا لأنَّه يريد خلاص الجميع دون أيِّ استثناء.

بالعودة إلى إقامة لعازر، أتى جواب يسوع ليكون بداية الزلزال: «ارفعوا الحجر!».

ما هذا الكلام الَّذي يتفوَّه به المسيح. فقد مضى على لعازر أربعة أيام، ومن المفترض أن يكون جسمه قد بدأ يتحلَّل! فكيف يطلب رفع الحجر عن القبر؟

أمّا الزلزال الكبير فكان عندما صرخ يسوع بصوت عظيم: «لِعازَرُ، هلُمَّ خارجًا!». فخرج الميت ويداه ورِجلاه مربوطات بأقمطة، ووجهه ملفوف بمنديل. فقال لهم الرب: «حلُّوه ودعوه يذهبْ».

هذا ما تُظهره أيقونة إقامة لعازر. يسوع يرفع يده نحو لعازر، يباركه ويهلك الموت. التلاميذ خلف يسوع. وخلف لعازر ظلام الموت المهزوم والقبر الفارغ. مريم ومرتا ساجدتان ليسوع بخشوع، وفي الوسط اليهود مذهولون ممَّا يشاهدونه، ومن بينهم شخص يغطِّي أنفه إشارة لرائحة الموت الخارجة من القبر.

ولكن مهلًا، مع يسوع لا وجود لرائحة الموت، بل رائحة الحياة الغالبة والمنتصرة والقائمة.

حدث إقامة لعازر مهمٌّ جدًّا ومحوريٌّ، وهذا ما جعل الجماعات المسيحية في القرون الثلاثة الأولى يصوِّرونه في الدياميس في روما. هذا إيماننا منذ البداية: غلبة الرب.

أمام هذا الحدث الإلهيِّ نطرح السؤال التالي:

هل ما زال الموت يخيفنا ويرعبنا؟.

اذا كان المقصود بالسؤال الموت الجسديَّ فنجيب أنَّه يحزننا ولكن لا يرعبنا، لأنَّ يسوع أمات الموت عندما مات بطبيعته البشريَّة وقام بسلطان طبيعته الإلهيَّة وبات الموت رقادًا وانتقالًا.

أمَّا ما يجب أن نخشاه حقًّا فهو الموت الروحيُّ. لعازر أقامه الربُّ لا ليعيش في الجسد أبديًّا، وهو رجع ومات.

فصرخة الناس ليسوع عند دخوله أورشليم «أُوصَنَّا – هوشعنا» تعني «يا ربُّ خلِّص». وهي مؤلَّفة من «يهوه» أي الكائن وهو الله، وفعل يشع أي يخلِّص. وهذا معنى اسم يسوع – يشوع «يهوه وفعل يشعُّ الخلاصيُّ».

هنا المغزى والمقصد. يسوع وحده يرفع الحجر عن قلبنا ويحرِّرنا من كلِّ ما يقيِّدنا ويقيمنا من قبر خطايانا. هو وحده المخلِّص. فكما دخل يسوع أورشليم الأرضيَّة ليرفعنا إلى أورشليم السماويَّة، هو يدخل قلبنا كلَّ مرَّة نناجي فيها خلاصه. ففي صلاة نصف الليل يقف المؤمن ليشقَّ قلبه ويحرِّره من الخطايا، ويتلو المزمور 118 وتحديدًا: « آه يا ربُّ خلِّصْ! آه يا ربُّ أَنقِذْ!».

إلى الربِّ نطلب.