فيما كان ملفّ النازحين السوريين يتقدّم إلى صدارة الاهتمام في الأيام القليلة الماضية، بعدما أثارت ما اصطلح على تسميتها بـ"هبة المليار يورو" الجدل، فأحيت نقاشًا كان يفترض حسمه منذ سنوات، لفتت الانتباه الزيارة التي قام بها قائد الجيش العماد جوزيف عون إلى العاصمة القطرية الدوحة، حيث التقى عددًا من المسؤولين بينهم رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، الذي أكد دعم دولة قطر للشعب اللبناني.

لكنّ الزيارة التي اعتبرها كثيرون استكمالاً لتنسيق قطري فرنسي حصل سابقًا وكان يفترض أن يفضي إلى مؤتمر لدعم الجيش اللبناني، لم تمرّ من دون ضجّة أثارها البعض، ممّن اعتبروها "مضخّمة" بوصفها تقنية محض، جاءت تلبية لدعوة من رئيس أركان القوات المسلحة القطري، وبالتالي تركّزت على بحث حاجات المؤسسة العسكرية، حتى إنّ هناك من اتهم عون بالوقوف خلف بعض التسريبات التي أضفت طابعًا سياسيًا عليها.

مع ذلك، ثمّة من رأى في الزيارة بصورة أو بأخرى، تأسيسًا لحراك قطري متجدّد على الساحة اللبنانية، أو ربما تفعيلاً للوساطة التي كانت الدوحة قد أطلقتها منذ ما قبل فتح جبهة الجنوب بالتوازي مع الحرب الإسرائيلية على غزة، ولا سيّما أنّه لا يخفى على أحد أنّ قائد الجيش نفسه كان في مرحلة من المراحل، مصنَّفًا على أنّه "مرشح قطر" للرئاسة، ولو تنصّلت الدوحة من ذلك، بعدما تراجعت أسهمه بفعل الفيتو الذي رُفِع في وجهه داخليًا.

ولأنّ كلّ ذلك يتزامن أيضًا مع معطيات تتحدّث عن زيارات مجدولة للعديد من الشخصيات السياسية، من اتجاهات مختلفة، إلى العاصمة القطرية في المرحلة المقبلة، تُطرَح علامات استفهام بالجملة عمّا إذا كانت زيارة عون إلى الدوحة بعيدًا عن طابعها التقني، تفتح الباب أمام تحرّك قطري جديد، قد يكون مختلفًا عمّا سبق، وربما يفضي إلى الخرق المنتظر رئاسيًا، وكيف يمكن أن يتلقّف مختلف الأطراف هذا الحراك، إن حصل.

في المبدأ، يقول العارفون إنّ الهدف الظاهر من زيارة قائد الجيش إلى الدوحة هو بعيد عن السياسة، وإن تعمّد البعض إضفاء الطابع السياسي عليها لأسباب وغايات معروفة، تمامًا كما تعمّد البعض الآخر التقليل من شأنها لأسباب وغايات معروفة أيضًا، فالزيارة جاءت تحت عنوان واضح، وهو حاجات الجيش اللبناني، علمًا أنّ الدعم القطري للجيش ليس جديدًا، وهو مستمرّ منذ سنوات، ويتخذ شكل مساعدات مالية وطبية بصورة خاصة.

أكثر من ذلك، لا يُعَدّ الاهتمام القطري بالجيش اللبناني جديدًا، إذا ما أخذنا في الاعتبار أنّ الدوحة التي تعتبر أنّ تعزيز الجيش وتحصينه في ظلّ الأزمات المتفاقمة يُعَدّ أمرًا جوهريًا للحفاظ على الأمن والاستقرار في لبنان، سبق أن لعبت دورًا أساسيًا مع المجتمع الدولي، ومع الفرنسيّين تحديدًا لدعم الجيش، عبر مؤتمرات ولقاءات عقدت في أكثر من مناسبة، خصوصًا في مواجهة الأزمة الاقتصادية التي انعكست سلبًا على أوضاع العسكريّين.

من هنا، يلفت العارفون إلى أنّ زيارة قائد الجيش إلى الدوحة شكّلت فرصة لمراجعة المساعدات التي تقدّمها دولة قطر إلى الجيش اللبناني، وما يمكن أن يطرأ عليها من تعديلات في ظلّ المتغيّرات الحاصلة، خصوصًا على المستوى اللبناني، علمًا أنّ هناك من يشير إلى أنّ قطر ترغب في الدخول إلى البوابة اللبنانية العريضة من خلال "تعميم" تجربة دعم الجيش، ليشمل قطاعات حيوية أخرى، خصوصًا على مستوى الاقتصاد والاستثمار.

لا يعني ما تقدّم أنّ السياسة كانت غائبة بالمُطلَق عن "أجندة" زيارة قائد الجيش إلى الدوحة، ولو أنّها لم تكن "طبقًا دسمًا" على مائدتها إن جاز التعبير، باعتبار أنّ قطر تصرّ على أنّ وساطتها لا تزال مطروحة، سواء على خطّ إنهاء التوتر القائم في الجنوب، وهي المنشغلة بالتوازي بإنجاز مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، ولو تعرّضت لانتكاسة بعد هجوم رفح، وسواء على مستوى انتخاب رئيس للجمهورية، الذي تعتبر الدوحة أنّ إنجازه بات أكثر من ضروريّ.

وإذا كان صحيحًا أنّ قائد الجيش صُنّف في مرحلة من المراحل على أنه "مرشح قطر" للرئاسة، وأنّ الدوحة كانت تسعى ليصبح "مرشح الخماسية" أيضًا، فإنّ العارفين يشيرون إلى أنّ الأمر لم يعد على هذا الشكل، بعدما أدركت الدوحة أنّ حظوظ قائد الجيش ليست واسعة، في ظلّ الرفض المطلق له من قبل قوى وازنة بينها "حزب الله" و"التيار الوطني الحر"، ولعلّ هذا الجانب حضر في المباحثات التي جرت في الدوحة، ولو من باب "جسّ النبض".

الأكيد أنّ الدوحة التي تسعى لتفعيل وساطتها، بالتنسيق مع المجموعة "الخماسية" التي بدأت تشعر بالعجز، خصوصًا بعدما تحوّل حراك سفرائها في لبنان إلى "لزوم ما لا يلزم"، وأصبحت جولاتها على الأفرقاء استطلاعية وأقرب إلى تضييع الوقت، تريد أن تضمن النتائج الإيجابية سلفًا، وهي ترفض الوقوع في "الفخ" الذي وقعت به باريس قبلها، حين اتُهِمت بالانحياز لمرشح دون آخر، ما أجهض مساعيها عمليًا، حتى بعد إعادة تموضعها.

من هنا، يقول العارفون إنّ القطريين سيحرصون في المرحلة المقبلة، على تنويع لقاءاتهم، لتشمل مختلف الأطراف من دون استثناء، علمًا أن هناك من يرجّح تنشيط الحركة على خط بيروت-الدوحة، ولا سيما أنّ بعض الأطراف هم الذين يطلبون مواعيد من الدوحة، ولو أنّ القناعة لا تزال موجودة لدى القطريين وغيرهم، بأنّ أيّ خرق يبقى مُستبعَدًا إلى حدّ بعيد، قبل التوصل إلى اتفاق متكامل في غزة ينعكس تلقائيًا على الجبهة في جنوب لبنان.

قد تكون هذه القناعة، المشتركة بين قوى داخلية وخارجية معنيّة بالشأن اللبناني، هي "بيت قصيد" كلّ الوساطات والمبادرات، فالرئاسة المجمَّدة منذ ما قبل الحرب على غزة، ستبقى كذلك إلى ما بعدها. لكن ثمّة من يعتقد أنّ المطلوب بلورة تحرّك جدّي قبل انتهاء الحرب، لضمان إنجاز الاستحقاق الرئاسي بمجرد التوصل إلى اتفاق، حتى يحفظ لبنان موقعه في مفاوضات "اليوم التالي"، التي لا يمكن أن تفضي لشيء بلا رئيس أصيل للجمهورية!.