صحيح أنّ الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله لطالما كان على رأس قائمة "المطلوبين" لإسرائيل، وبالتالي المهدَّدين بالاغتيال، وصحيح أنّ الرجل كان يجاهر علنًا برغبته في تتويج مسيرته الطويلة بما يعتبره "وسام الشهادة"، حتى إنّه بدا في خطاباته الأخيرة، بعد سلسلة الاغتيالات التي طالت قادة الصف الأول في الحزب، وكأنّه يتوقّع الأمر ويمهّد له، إلا أنّ "سرًا ما" كان يترك انطباعًا لدى الناس، من المؤيدين والخصوم، أنّ "السيد لا يُمَسّ".
لعلّ عوامل عدّة أسهمت في ترسيخ هذا الانطباع، بينها أنّ خطوة بحجم اغتيال السيد حسن نصر الله كان يُنظَر إليها على أنّها ترقى لمستوى "الزلزال"، وأنّها في ظروفٍ عاديّة لا بدّ أن تكون سببًا مباشرًا في حرب بلا أفق ولا حدود، فضلاً عن أنّ الاعتقاد الذي لطالما كان سائدًا هو أنّ إسرائيل لن تجرؤ على الإقدام على مثل هذا العمل، وأنّها، حتى لو أرادت، لن تستطيع، باعتبار أنّ التدابير التي يتّخذها السيد نصر الله تمنحه "حصانة" يستحيل القفز فوقها.
لهذه الأسباب ربما، لا يزال كثيرون يرفضون "تصديق" خبر اغتيال السيد نصر الله، حتى إنّ هناك من بدأ ينسج فرضيّات غير واقعيّة ولا منطقيّة، وأقرب إلى الخيال، فيما يذهب آخرون للحديث عن "مؤامرة" اشترك في تدبيرها بعض الحلفاء، ممّن "باعوا" الأمين العام للحزب، مقابل صفقات أو تسويات ستظهر تباعًا، وكلّها أمور لا تنفع في حجب الحقيقة الثابتة، وهي أنّ الجريمة قد وقعت، وأنّ مرحلة جديدة قد بدأت تلقائيًا، وإن بقي الغموض عنوانها.
ومع أنّ "حزب الله" حاول الإيحاء بأنّ هيكليته التنظيمية لا تعرف "الفراغ"، وأنّ المسؤوليات التي كان يتولاها كلّ من تمّ اغتيالهم انتقلت إلى من ينوب عنهم، وأنّ القيادة ستختار أمينًا عامًا جديدًا في أقرب فرصة، إلا أنّ علامات استفهام كبرى لا تزال مفتوحة حول سيناريوهات "ما بعد" اغتيال السيد في ظلّ قناعة راسخة بأنّ هذا الاغتيال لن يكون "عابرًا"، وأنّ ما بعده لا يمكن أن يكون كما قبله، على كلّ المستويات، وبكلّ المقاييس.
في المبدأ، يقول العارفون إنّ جريمة الاغتيال جاءت صادمة ومفاجئة، إذ إنّ أحدًا لم يتوقع أن يصل الدور على الأمين العام للحزب نفسه، على الرغم من أنّ "الجنون" الإسرائيلي كان قد تجاوز في تماديه كلّ قواعد الاشتباك، ولا سيما أنّ "حزب الله" بقي في المقابل، وربما لا يزال إلى حدّ بعيد، ملتزمًا بالضوابط التي وضعها لنفسه، رافضًا الوقوع في ما كان يصفه بـ"الفخّ الإسرائيلي" بالذهاب إلى الحرب الواسعة أو الشاملة، بأتمّ معنى الكلمة.
ومع أنّ موقف الحزب المتريّث والمتحفّظ بدا مثيرًا للجدل في بعض الأوساط، في مواجهة عدوانٍ كان واضحًا أنّه لا يعطي اعتبارًا لأيّ قواعد أو خطوط حمراء، فإنّ فرضية الاغتيال بقيت مُستبعَدة بصورة عامة، لأسباب واعتبارات عدّة، من بينها "رمزية" شخص الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، الذي كان يُعتقَد على نطاقٍ واسع، أنّ المسّ به سيفجّر الصراع، وينقله إلى مكانٍ آخر تمامًا، لا يريده أحد على مستوى الإقليم والعالم.
ويتناغم ذلك مع الاعتقاد الشائع بأنّ الاغتيال يشكّل "نقطة تحوّل" في مكانٍ ما في مسار الصراع ككلّ، فالإسرائيلي حين يُقدِم على جريمة من هذا النوع، يوجّه رسالة واضحة مفادها أنّ "لا خطوط حمراء" بالنسبة إليه، ولا سيما أنه أتبعها بالمزيد من المجازر والاغتيالات، وكأنّه يقول إنّه جاهز لكلّ ردود الفعل، ولو أنّ الأكيد أنّه حصل على "الغطاء" لمثل هذه العملية قبل تنفيذها، وربما على "الضمانات" بأنّ الأمور ستبقى "تحت السيطرة"، بصورة أو بأخرى.
في المقابل، فإنّ الجريمة لا بدّ أن تشكّل "نقطة تحوّل" أيضًا في مقاربة "حزب الله" لحرب "الإسناد" التي تنتقل مع هذا الاغتيال إلى مرتبة مختلفة، علمًا أنّ كلّ التقديرات تشير إلى أنّ الحزب الذي كان "متحفّظًا" في عملياته، ومنفتحًا على احتمال "التسوية"، لا يمكن إلا أن يصبح أكثر "تشدّدًا" اليوم، لأنّ أيّ تراجع سيكون بمثابة "خيانة" لدماء أمينه العام، الذي كان في خطابه الأخير يكرّر "الثوابت" التي لم تتغيّر طيلة الأشهر السابقة، رغم كل الضغوط.
عمومًا، وبعيدًا عن "صدمة" الاغتيال، التي يقول البعض إنّ المعنيّين نجحوا في "احتوائها" إلى حدّ بعيد، خصوصًا في المرحلة الفاصلة بين بيان النعي المباغت، وكلمة نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم ظهر الإثنين، فإنّ البحث بالسيناريوهات "الصعبة" للمرحلة المقبلة بدأ، علمًا أنّ الجانب الإسرائيلي الذي توقّع أن تنتظره "أيام صعبة" بعد جريمته الكبيرة، تعمّد توسيع اعتداءاته، وتصعيد تهديداته، وكأنّه يقول إنّ الاغتيال "ليس النهاية".
بالحديث عن السيناريوهات، ثمّة من يميل للحديث عن "تسوية" قد تكون الجريمة الكبرى فتحت الباب باتجاهها، ويستند أصحاب هذا الرأي إلى الجهود الدبلوماسية التي نشطت سريعًا، والتي يبدو أنّ ثمّة من يتجاوب معها في الداخل اللبناني، وكذلك إلى ردود الفعل التي أوحت بأنّ "حزب الله" تُرِك وحيدًا، حتى إنّ المواقف الإيرانية جاءت "إنشائية" في أفضل الأحوال، في وقت كان البعض يتوقع منها ردًا "ناريًا" تلقائيًا على جريمة من هذا النوع وبهذا الحجم.
إلا أنّ هذا الرأي يصطدم بآراء أخرى تلمّح إلى أنّ "نهاية المعركة" أصبحت أبعد ممّا يعتقد الجميع، وأنّ فعل الاغتيال لن يفعل سوى "تعقيد" الأمور، فتراجع "حزب الله" اليوم لم يعد واردًا، لأنّه سيُعتبَر بمثابة "هزيمة واستسلام"، في حين أنّ الرسالة التي أراد توجيهها في بيان النعي وفي كلمة الشيخ قاسم، كما في استكماله عملياته العسكرية، أنّ بنيته لم ولن تتأثر بالضربات التي تكبّدها، وأنه سيواصل الطريق مهما كان الثمن، وحتى تحقيق النصر.
بمعنى آخر، فإنّ عنوان "إسناد غزة" الذي كان سابقًا "إشكاليًا" بين الحزب وسائر الأطراف، أصبح اليوم أكبر من ذلك، فالجانب الإسرائيلي هو الذي أعلن "الحرب" على كلّ لبنان باغتيالاته ومجازره التي لا يميّز فيها بين عسكريين ومدنيين، وبالتالي فإنّ العنوان أصبح وطنيًا وجامعًا، وهو الدفاع عن الوطن والسيادة، في وجه كلّ الاستباحة الحاصلة، رغم تفاقم المأساة الناتجة عن الحرب والنزوح، وسط الصمت العالمي الذي لم يعد "مريبًا" فقط.
وبعيدًا عن هذين الرأيين، ثمّة رأي ثالث يقول إنّ حدثًا بحجم اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، الذي لعب دورًا استثنائيًا على مدى ثلاثة عقود، أصبح معه بمثابة زعيم على مستوى المنطقة والإقليم، لا يمكن أن يكون "عابرًا"، ولو فرضت الحرب القائمة إيقاعًا آخر، أقلّ "صخبًا" من المتوقع، "صخب" لا يحجب حقيقة أنّ الحدث يعلن نهاية مرحلة، وبداية أخرى، لا أحد يستطيع أن يتكهّن سلفًا بمعالمها الحقيقية...