البعض يسميها "جنون"، والبعض الآخر يطلق عليها اسم "سرعة التأقلم"، فيما يراها آخرون انها "قدرة" اللبناني على الانتقال من حالة الى أخرى، وهي ليست موجودة لدى أي شعب في العالم. يكفي ان تسير خطوات قليلة في أي شارع او حيّ او منطقة او بلدة، حتى تغرق بصور المرشحين، وهنا الكلام عن الانتخابات البلدية والاختيارية وليس عن الاستحقاق النيابي. فجأة، وفي حين لا يزال اتفاق وقف الاعمال القتالية مع إسرائيل يتأرجح ويتعرض لـ"الاغتصاب" من قبل الإسرائيليين، استُبدلت صور الشهداء الذين سقطوا في الحرب، بصور أناس احياء يترشحون لمنصب مختار او مجلس بلدي.

ولكي لا يتم فهم الأمور بشكل خاطئ، ليس هناك من انتقاد بالنسبة الى هذه المسألة، انما الانتقاد لسرعة الانتقال من حالة الى أخرى من دون الانتهاء من المرحلة السابقة. فعدم وجود صور شهداء، من المفترض ان يعني الانتهاء من مرحلة الحرب والغارات والضربات المفاجئة وغير المفاجئة، وعدم الرجوع الى مسألة الحرب. ولكن ما يحصل حاليا ًهو عكس ذلك تماماً، فترى الجميع قد دخلوا الى حالة الانتخابات واجوائها ومتطلباتها، فيما الوضع العسكري والأمني لا يزال ضبابياً والتهديدات الإسرائيلية تتصاعد للبنان والمنطقة بشكل عام، ولا تزال الارض محتّلة واسرى محتجزون. اما الوضع السياسي والاقتصادي، فلم يتغيّر على الرغم من كل الكلام عن حصول جهود في هذا السياق، قد يفضي الى حصول تغييرات او لا، انما الواقع لا يزال يشير الى ان الأمور لا تزال على حالها حتى اشعار آخر.

لبنان بطل الانتقالات من حالة الى أخرى، هذا الكلام غير صحيح، فهو لم ينتقل بالمعنى الصريح للكلمة، انما عمل على دمج الحالات ببعضها، وهذا سبب وقوعه في الازمات والمشاكل سنة تلو الأخرى وعقداً تلو آخر من الزمن. ونحن اليوم في مرحلة دمج مرحلة الاستحقاقات الانتخابية البلدية والاختيارية بمرحلة العمل الدبلوماسي لانهاء الحرب، وبمرحلة العمل على النهوض الاقتصادي والمالي، وبمرحلة التحضير لاستحقاقات سياسية مهمة وتغييرات جذرية في الداخل ومنها على سبيل المثال لا الحصر: سلاح حزب الله وسلاح الفلسطينيين...

لا يمكن لاي شعب آخر ان يقوم بمثل هذا العمل، فدمج مثل هذه الأمور سيء وله تداعيات خطيرة على اكثر من صعيد، ولكن رغم ذلك، ترى اللبناني يتغاضى عن كل التداعيات والنتائج، ويركب كل موجة يصطدم بها، فينسى لبعض الوقت الأمواج الأخرى، ولكنه سرعان ما يعود اليها وفي كثير من الأحيان بأياد فارغة ومن دون أيّ سلاح لمواجهتها، معتمداً على الله وعلى دعم الآخرين له، فيما الحقيقة ان الآخرين انما تهمهم مصالحهم التي قد تتقاطع مع المصلحة اللبنانية حيناً وتتعارض معها احياناً. ليس في الامر بطولة كما يخيّل للبعض ان يعتقد، بل على العكس، هناك هروب من وضع يجب مواجهته بجدية وحزم، ويجب الانتهاء من حالة للانتقال بعدها الى حالة أخرى وضمان عدم عودتها بكل ما تحمل من ثقل ومشاكل لتعترض مسيرة من الضروري البدء بها على طريق النهوض التي يتمناها الجميع.

من الجيد رؤية صور مرشحين مع ابتساماتهم، فهذا يترك اثراً نفسياً ايجابياً في النفوس، ولكن الأهم يبقى في ان يكون هذا الأثر دائماً وليس موقتاً، لانه مقابل هذه الابتسامة لفترة محدودة جداً، سنعود الى حالة العبوس وربما البكاء لفترة طويلة على امل الا تكون غير محددة، انها "ابر المورفين" التي تنسينا الألم لبعض الوقت قبل ان يعود بقوّة ليطرق ابوابنا فنستقبله مجدداً من دون القدرة على تخطيه.