لا تشبه الانتخابات البلدية والاختيارية التي انطلقت الأحد، في أولى جولاتها في محافظة جبل لبنان، أيّ انتخابات أخرى، نيابية أو بلدية، فهي جاءت في سياق يكاد يكون غير مسبوق على كلّ المستويات، جعل "التشكيك" بحصولها من الأساس يتفوّق على كلّ السيناريوهات، لدرجة أنّ هذه "الضبابية" لا تزال مستمرّة حتى اليوم، على الأقلّ على مستوى انتخابات بيروت مثلاً، التي يجزم البعض أنّها ستؤجَّل بالحدّ الأدنى، بحكم الأمر الواقع.
ولعلّ السياق الأمني كما السياسي والاقتصادي الذي جاءت فيه هذه الانتخابات، فرض نفسه على أجوائها، فهي الأولى منذ الانهيار الاقتصادي والمالية، لكنها جاءت أيضًا بعد حرب إسرائيلية على لبنان لم تنتهِ فصولاً بعد، في ظلّ اعتداءات إسرائيلية لا تتوقف، ولم يستطِع أحد أن يضمن توقّفها على الأقل في أيام الاقتراع، وجاءت أيضًا على وقع احتقان سياسي وطائفي بلغ ذروته، في ظلّ النقاش الساخن حول نزع سلاح "حزب الله" مثلاً.
كلّ ما سبق ترجِم على الأرض غيابًا للحماسة الانتخابية حتى أيام قليلة سبقت اليوم "الموعود" الأول، حتى في المناطق التي شهدت "معارك"، حملت طابعًا سياسيًا إلى جانب ذلك العائلي والتنموي المرافق عادة للانتخابات البلدية، حيث كان الانطباع السائد بأنّ الانتخابات ستُلغى في اللحظة الأخيرة، لكنّ ذلك لم يحصل، حيث اكتملت الصورة الانتخابية في جبل لبنان، بدءًا من عميات الاقتراع، إلى العدّ والفرز، وصولاً إلى إعلان النتائج.
وإذا كان صحيحًا أنّ البلاد تجاوزت أول "قطوع انتخابي"، إن صحّ التعبير طبعًا، بالحدّ الأدنى من المشاكل، فهل يمكن القول إنّ الحكومة نجحت عمليًا في أول "امتحان" تخضع له، خصوصًا بعدما شكّك كثيرون بقدرتها على تنظيم الاستحقاق، وربما شكّكت هي نفسها بذلك، عندما قدّم نائبان محسوبان على رئيس الحكومة اقتراحًا بالتأجيل؟ وهل سينعكس هذا النجاح التنظيمي، ولو كان نسبيًا، على الجولات المقبلة المنتظرة في الأسابيع الثلاثة المقبلة؟!.
في المبدأ، لا شكّ أنّ مجرّد حصول الانتخابات البلدية والاختيارية، في مرحلتها الأولى في محافظة جبل لبنان، يشكّل نقطة قوة للحكومة، التي نجحت حيث أخفق غيرها، باعتبار أنّ هذا الاستحقاق يأتي بعد ثلاثة تمديدات متتالية، على الرغم من أنّ الظروف التي أحاطت بها لم تكن مثالية، بل لعلّها أصعب من ظروف السنوات السابقة، بفعل الحرب الإسرائيلية الأخيرة، وما أفرزته من معادلات مستجدّة، وظروف متغيّرة على الأرض.
كما يُحسَب للحكومة والعهد أنّ هذه الانتخابات جاءت بأجواء آمنة نسبيًا، وبتنظيم جيّد، أو بالحدّ الأدنى، أفضل بكثير ممّا كان متوقّعًا، بالنظر إلى فترة التحضير "القصيرة نسبيًا"، وذلك على الرغم من بعض المشاكل اللوجستية التي سُجّلت على خطّها، وكذلك المخالفات والانتهاكات التي رصدتها منظمات المجتمع المدني، وعلى رأسها الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات (لادي)، والتي لم تبدُ فاقعة أو خطيرة، إن جاز التعبير.
فمن اطّلع على التقارير التي أصدرتها "لادي"، سواء في يوم الانتخابات، أو في اليوم التالي، يلاحظ أنّ الشكاوى الأساسية تعلّقت بعدم إلمام رؤساء الأقلام بالقانون الانتخابي، وضعفهم الناتج عن عدم تدريبهم بالحجم الكافي، إضافة إلى الخروقات الدائمة للصمت الانتخابي، والذي تلعب وسائل الإعلام دورًا جوهريًا على خطّه، وهي التي تصرّ في كل استحقاق على استصراح المرشحين والناخبين، من دون أيّ اعتبار للنصوص القانونية.
ويُضاف إلى ما سبق بعض الخروقات المرتبطة بسرية الاقتراع، سواء لجهة عدم التصويت خلف المعزل، أو مرافقة المندوبين للناخبين، أو لجهة تثبيت المعزل مثلاً بطريقة مكشوفة ومفضوحة، إضافة إلى بعض الإشكالات الأمنية المتفرّقة التي سُجّلت، والتي بقي طابعها فرديًا إلى حدّ بعيد، وبعض الفوضى التي شهدتها بعض مراكز الاقتراع في بعض الأحيان، وكلّها أمور لا يخلو منها أيّ استحقاق انتخابي في العادة.
لكلّ ما تقدّم، يشدّد العارفون على أنّ ما تحقّق في أول الآحاد الانتخابية مهمّ، بإيجابيّاته وسلبيّاته، أو ثغراته إن صحّ التعبير، لكنّ التحدي لا يزال كبيرًا أمام الحكومة بانتظار استحقاقات الأسابيع المقبلة، فهناك من يعتقد أنّ الحماوة الانتخابية سترتفع الآن بعدما أيقن الناس أنّ الانتخابات البلدية انطلقت، وبالتالي أنّ التأجيل لم يعد مطروحًا، وهناك من يصرّ على أنّ المطلوب من الحكومة تفادي تكرار الثغرات نفسها، وبالتالي التعلّم من التجربة.
ولعلّ التحدّي يتركّز الآن بشكل أساسي على محافظتين، أولهما العاصمة بيروت، في ظلّ الهواجس الكبرى من الخطاب الطائفي الذي بدأ يطغى على أجوائها، علمًا أن الانطباع الآن هو أنّ الكرة ستكون في ملعب مجلس النواب، الذي كان قد ناقش تعديلات قانونية لضمان المناصفة في انتخابات بيروت، والذي يفترض أن يستكمل ذلك هذا الأسبوع، علمًا أنّ المتابعين يميلون إلى ترجيح "تأجيل" الاستحقاق في بيروت حتى إشعار آخر.
أما التحدّي الثاني فيرتبط بانتخابات الجنوب تحديدًا، في ظلّ الخروقات الإسرائيلية المستمرّة لاتفاق وقف إطلاق النار، وسط تساؤلات عن "الضمانات" التي يمكن أن تؤمّنها الحكومة من أجل أن يمرّ الاستحقاق في القرى، ولا سيما المدمّرة منها، من دون أن يعكّر صفوها عمليات اعتداء أو قصف أو اغتيال، بل ربما استهداف للمرشحين والناخبين، علمًا أنّ الاتصالات التي تجري في سبيل ذلك، لم تفضِ إلى أيّ نتيجة وفق التسريبات.
ويقول العارفون إنّ تجاوز "القطوع الانتخابي الأول" بالحدّ الأدنى من الأخطاء أو المشاكل، ليس نهاية المطاف، فالانتخابات البلدية والاختيارية لا تزال في بدايتها، والمطلوب أن تنعكس الأجواء الديمقراطية، ولو النسبية، التي رافقتها، على سائر محطّاتها في الأسابيع المقبلة، والتي قد يكون لكلّ منها تحديات تختلف عن غيرها، على المستوى السياسي، أو الطائفي، أو المناطقي، أو اللوجستي، أو الأمني، إلى آخره.
هو بلا شكّ إنجاز للحكومة وللعهد، الذي "ثبّت" في مكانٍ ما احترامه لدورية الانتخابات، ولمواعيدها الدستورية، فأعاد الحياة إلى استحقاق "مجمَّد" منذ سنوات، وإلى بلديات باتت بمعظمها إما عاجزة أو مشلولة، ومنها ما تمّ حلّه أصلاً. لكنّ الأهمّ يبقى استكمال الإنجاز حتى النهاية، واحترام المعايير الديمقراطية، ولو بحدّها الأدنى، باعتبار أنّ القانون الأكثريّ قد يشكّل بحدّ ذاته "ثغرة الثغرات"، وهو الذي يخلو من أيّ إصلاح جدّي!.