في الجولة الأخيرة من الانتخابات البلدية والاختيارية في محافظتي الجنوب والنبطية، اتّجهت الأنظار إلى "المعركة" في جزين تحديدًا، حيث غلب الطابع "السياسيّ" البعد الإنمائي والعائلي الذي طغى على الاستحقاق البلدي في الكثير من محطّاته، وهو ربما ما دفع إلى تصدّر المدينة نسبة الاقتراع جنوبًا، على وقع السجال الناريّ بين "القوات اللبنانية" و"التيار الوطني الحر" الذي اندلع للمفارقة، في ذروة "صمت انتخابي" بدا عصيًا على الاحترام.

قد يكون لكلّ من "التيار" و"القوات" أسبابهما المشروعة، وربما الموجبة لـ"تسييس" المعركة، فالأول أراد أن "يكسر" صورة الهزيمة التي مني بها في انتخابات 2022 في جزين، بعدما كان محسوبة عليه تاريخيًا، ما أعطى المعركة بعدًا "رمزيًا" بالغ الأهمية بالنسبة إليه، كما أراد أيضًا أن يخرج من الانتخابات البلدية بـ"انتصار حقيقي" يمكن أن يوظّفه في السياسة، وهو ما لم يحقّقه في الجولات السابقة، ولو خرج منها أيضًا من دون "خسائر قاتلة".

في المقابل، كان طموح "القوات" أن تستكمل "انتصاراتها الانتخابية" في جزين، وأن تكرّر فيها ربما "مفاجأة" زحلة، أو ما وُصِف في أوساطها بـ"التسونامي"، بعدما واجهت تكتّلاً واسعًا من القوى المسيحية، من حلفاء وخصوم مفترضين، فتفوّقت عليهم جميعًا، وكرّست "زعامتها" المسيحية في مكان ما، وهي اعتقدت أنّ "روحية التغيير" التي أفرزتها الانتخابات البلدية على المستوى المسيحي في الكثير من البلدات، ستسري على جزين أيضًا.

لكنّ "تسونامي" زحلة "سقط" في جزين، حيث لم تخفق "القوات" في تحقيق أيّ خرق يُذكَر في مواجهة "التيار" فحسب، ولكنّها أخفقت في إدارة المعركة ككلّ، بدءًا من رفع سقف خطابها، والخوض في "تحديات" لم تكن مجدية ولا مفيدة، وصولاً إلى الدعوة إلى "طيّ الصفحة" من أجل تحقيق "الإنماء"، وهو ما يعاكس مثلاً خطاب الانتصار في زحلة، الذي وصفه الكثيرون بـ"الإلغائي"، فأين أخطأت "القوات"، وهل كان بوسعها تفادي ذلك؟!.

في المبدأ، قد لا تكون المقارنة بين المعركتين الانتخابيتين في زحلة وجزين في مكانها، فالظروف كانت مختلفة، والتحالفات كذلك، وربما الرمزية والأهمية أيضًا، لكنّ العارفين يعتبرون أنّ "القوات" هي التي فرضت مثل هذه المقارنة بخطابها الإعلامي وأدائها السياسي، وخصوصًا برفعها حدّة الخطاب في مواجهة "التيار الوطني الحر"، على الرغم من أنّ الأخير بدا مطمئنًا إلى وضعه، لدرجة دفعته إلى الدعوة لـ"احتفال النصر" قبل إقفال صناديق الاقتراع.

ولعلّ العودة إلى تصريحات النائبة "القواتية" غادة أيوب تكفي للتأكيد على هذا المُعطى، فهي لم تكتفِ بالتجييش الانتخابي الذي قد يكون مفهومًا، بالحديث عن "وضع حزب الله يده على جزين"، ولا بالدعوة إلى "التغيير" من البوابة الجزينية، ولكنها اختارت لغة "التحدي" في وجه رئيس "التيار" باسيل، بقولها في أحد التصريحات الإعلامية التي خرقت فيها الصمت الانتخابي: "خليهن يلاقوا لرئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل شي قرنة يشكوا فيها العلم".

صحيح أنّ المحسوبين على "القوات" يعتبرون أنّ "التيار" هو الذي بادر إلى "تسييس" المعركة، وحوّلها من الطابع الإنمائي المفترض، إلى "معركة سياسية" ضدّ "القوات" حصرًا، متحالفًا لذلك مع خصومه التاريخيين في القضاء، ويشيرون إلى أنّ أيوب كانت في مكان ما تدافع عن نفسها بعدما طالتها السهام "العونية" مباشرة، عبر توصيفها بـ"نائبة الصدفة"، إلا أنّ الصحيح أيضًا أنّ ما تظهّر إعلاميًا هو أنّ "القوات" ارتضت "التسييس"، بل أخذته إلى مكانٍ آخر.

بكلامٍ آخر، يمكن القول إنّ "القوات" أدارت معركتها الإعلامية قبل الانتخابية في جزين، على مجموعة من "الثوابت"، فهي أرادت أن "تستنسخ" تجربة زحلة في جزين، اعتقادًا منها بأنّ ما جرى في مناطق أخرى سيتكرّر فيها، وهي أرادت بالتالي أن تكرّس "زعامتها المطلقة" على الساحة المسيحية، وأن تسجّل النقاط تحديدًا على "التيار الوطني الحر"، عبر تجريده من أيّ حيثية تمثيليّة يمكن أن يستند إليها في معاركه السياسية.

هنا، أخطأت "القوات" بحسب ما يرى العارفون، أو لعلّها وقعت في "الفخّ"، على طريقة ذلك "السحر الذي ينقلب على الساحر"، فكانت النتيجة أنّ خسارتها لمعركة بلدية واحدة أعطيت أكثر من حجمها، لتتحوّل إلى "هزيمة"، بل لتطيح في مكانٍ ما بـ"تسونامي زحلة"، وهو ما لا يمكن احتواؤه بخطاب "طيّ الصفحة"، الذي اصطدم بخطاب رئيس حزب "القوات" سمير جعجع قبل أسبوع، حين هتف: "ع زحلة ما بيفوتو، لا هلق ولا بعدين".

لا يعني ذلك أنّ "التيار الوطني الحر" حقّق انتصارًا "مدويًا" في جزين، وفق ما يقول العارفون، إلا أنّه يعني أنّ "القوات" هي التي قدّمت "هدية مجانية" لـ"التيار"، وأطاحت بكلّ "الأسباب التخفيفية" التي كان يمكن أن تقلّل من وقع خسارتها، ومن بينها ما يرتبط بطبيعة المعركة التي كانت قائمة في جزين، وبالتحالفات التي يمكن أن تثير التساؤلات، ومن بينها ما يرتبط أيضًا بالبعد المحلي الذي يبقى موجودًا في الاستحقاقات البلدية.

هنا، يرى البعض أنّ انتصار "التيار" لا يرقى مثلاً لمستوى ما حقّقته "القوات" في زحلة، بمعزل عن اختلاف الأهمية والحجم، فـ"القوات" مثلاً واجهت جميع القوى الأخرى منفردة، في حين أنّ "التيار" خاض انتخابات جزين، متكئًا على تحالف مع "مفتاح أساسي" في جزين، هو النائب إبراهيم عازار، الذي لطالما كان "الخصم الحقيقي" في جزين بالنسبة إليه، باعتبار أنّ "القوات" لم تكن "الرقم الصعب" في جزين تاريخيًا.

من هنا، يرى العارفون أنّ انتخابات جزين، بمعزل عن نتيجتها، تعطي "مؤشّرات" على القوى السياسية أخذها بعين الاعتبار في التحضير للانتخابات النيابية المقبلة، فـ"القوات" أدركت أنّها حقّقت "الخرق" في الانتخابات الأخيرة، مستفيدة من "الانقسام" داخل "التيار" بين أمل أبو زيد، وزياد أسود الذي أصبح خارجه، والانقسام بينه وبين عازار، و"التيار" فَهِم أنّ الحفاظ على ما يعتبرها "قلعة عونيّة"، ومنع تكرار خطأ 2022، يتطلب تحالفات مدروسة.

مع ذلك، يبقى الأكيد أنّ "مؤشر" الانتخابات البلدية لا يعطي صورة شاملة عن تلك النيابية المنتظرة العام المقبلة، والتي تحكمها الكثير من المعايير المختلفة، من طبيعة النظام إلى التحالفات، إلى تشغيل ماكينات انتخابية بقيت مطفأة في هذه المعركة. لكنّ الأكيد أنّ معركة جزين غيّرت "معادلات" كان البعض يمنّي النفس بها، فهي أطاحت بفكرة الزعامة المسيحية المطلقة، وكرّست فكرة "تعدّدية"، على الأقل بانتظار انتخابات 2026!.