منذ سنوات، يتعامل ​لبنان​ مع أزماته بالحدّ الأدنى من المعالجة: تسويات جزئية، صفقات موقتة، وحلول مؤجلة. لكن المواقف الإقليمية والدولية التي تتشكل اليوم لا تترك هامشًا واسعًا للمراوغة. فالمناخ السياسي المحيط بلبنان لا يحمل مؤشرات دعم، بل إشارات ضغط، وتغيّر في طبيعة التعامل معه.

"ما كان يُعتبر "دعمًا غير مشروط" للبنان في العقود السابقة، لم يعد قائمًا"، تقول مصادر مطلعة على مواقف الدول العربية، مشيرة إلى أنه لم يعد يُنظر إلى لبنان بوصفه مساحة يمكن تثبيت استقرارها بالمال والدبلوماسية الناعمة، بل باتت الدول التي كانت تاريخيًا حاضنة له، تنظر إليه من زاوية مختلفة: ما الجدوى من دعم كيان يُضعف نفسه بنفسه، ويستمر في إنتاج العجز السياسي والانقسام المؤسساتي؟.

ترى المصادر أن المطلوب اليوم ليس دعمًا تقنيًا أو ماليًا، بل موقفًا سياديًا واضحًا من الداخل اللبناني، فالحياد الذي اعتاد عليه بعض الأطراف في التعامل مع القضايا الجوهرية، لم يعد مقبولًا والتردد في معالجة مسألة احتكار السلاح، وغياب قرار حاسم بشأن دور الدولة، يُقرأ خارجيًا كنوع من التواطؤ، أو العجز المقصود".

من هنا تقرأ المصادر ما يُمارس حاليًا على لبنان بكونه ليس عقوبات قاسية على الطريقة الإيرانية، لكنه يشبه في روحيته أسلوب "العزل الممنهج"، التي تضم وقف المساعدات، تقليص التمثيل الدبلوماسي، وتعليق المشاركة في المبادرات الإنقاذية، كلها أدوات تُستخدم لإيصال رسالة غير قابلة للتأويل: لن يكون هناك استثمار سياسي أو مالي في بلد لا يُعيد تنظيم أولوياته السيادية.

وتكشف المصادر أن من أبرز ملفات الضغط التي باتت تُستخدم بوضوح ضد لبنان هو ملف إعادة الإعمار، خصوصًا في الجنوب بعد العدوان الإسرائيلي، وأيضًا في المناطق المتضررة من تفجيرات أو انهيار البنية التحتية، فالدول المانحة والخليجية بشكل خاص لا تُخفي موقفها: لا أموال لإعادة الإعمار ما لم تُطبق الشروط، وأبرزها بحسب هؤلاء بسط سلطة الدولة على الأرض والسلاح.

حتى الجهات الدولية التي تملك قدرة مالية كبرى مثل البنك الدولي، والاتحاد الأوروبي باتت تضع شروطًا صارمة مرتبطة بالحوكمة، الشفافية، والمراقبة، وتربط التمويل باستقرار سياسي لا يمكن تحقيقه في ظل وجود سلاح حزب الله بحسب اعتبارها.

بالمقابل تعتبر مصادر سياسية لبنانية أن الضغوط التي تُمارَس على لبنان اليوم ليست فقط سياسية، بل تحمل أبعادًا سيادية واقتصادية وأمنية، ومع أنها تهدف إلى إعادة تشكيل التوازنات الداخلية تحت شعار "بسط سلطة الدولة"، إلا أن طريقة التطبيق هي التي تُحدد ما إذا كانت هذه المطالب مشروعة، أو تُحوّل لبنان إلى ساحة خاضعة لقواعد الخارج، خصوصًا في ما يخص إسرائيل.

لذلك تعتقد المصادر أن مواجهة الضغوط يجب أن تبدأ من موقف لبناني موحد مفاده أن السيادة تنطلق من تحرير الأرض ووقف الاعتداءات، ومن ثم بحوار يقوده رئيس الجمهورية للوصول إلى "استراتيجية الدولة المقاومة"، إذ ليس صحيحًا أن الخيار محصور بين دولتين: واحدة مخطوفة بسلاح، وأخرى مخترقة من الخارج، بل يجب أن يكون هناك خيار بناء نموذج "دولة مقاومة"، تكون فيها الدولة قوية ومتماسكة، لكنها لا تُسلم بسيطرة إسرائيل على القرار الحدودي أو السيادي، وهذا يبدأ من التمسك بالمعادلة التي يجب أن يفهمها الجميع وهي أن تطبيق الشروط الدولية لا يعني الخضوع التام، لكن يعني الاحتراف في التفاوض والتدرّج في التنفيذ.