بمثابة "ضربة معلّم"، بدت الخطوة التي أقدم عليها الجيش اللبناني يوم الخميس الماضي، بعد دقائق من "إنذار الإخلاء" الذي أصدره المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي لسكان عدد من المناطق في الضاحية الجنوبية لبيروت، بزعم أنّها تحتوي على أسلحة أو صواريخ تابعة لـ"حزب الله"، ما يعطي إسرائيل "الحقّ بالهجوم"، وفق منطق "حرية الحركة" الذي تسعى إلى تكريسه منذ إبرام اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان نهاية العام الماضي.
بعد صدور أمر الإخلاء مباشرةً، باشرت قيادة الجيش التنسيق مع لجنة مراقبة وقف الأعمال العدائية، التي نصّ عليها الاتفاق والتي تتولّى مبدئيًا مهمّة الإشراف على تنفيذ الاتفاق، وذلك من أجل الكشف الميداني على المواقع المهدَّدة في محاولة لتفادي العدوان، وبالفعل توجّهت دوريّات من الجيش إلى هذه المواقع للبدء بالمهمّة، إلا أنّ الجانب الإسرائيلي عاجلها بسلسلة من الغارات التحذيرية، في ردّ "ضمني" سلبي على الاقتراح، يعكس إصرارًا على القصف.
قد تكون أهمية خطوة الجيش في هذا الجانب تحديدًا، فالهدف المباشر منها كان احتواء التهديد الإسرائيلي وتفادي الهجوم، لكنّ الهدف المضمر لها كان مواجهة "البروباغندا" الإسرائيلية، وهو ما استكملته قيادة الجيش في البيان الذي أصدرته في اليوم التالي للهجوم، والذي رفعت فيه السقف، ملوّحة بإمكانية تجميد التعاون مع لجنة مراقبة وقف الأعمال العدائية، إذا ما استمرّ "إمعان العدو الإسرائيلي في خرق الاتفاقية ورفضه التجاوب" مع اللجنة، وفق تعبيره.
صحيح أنّ تباينًا رُصِد في المواقف من هذا البيان، حيث رأى البعض أنّ قرار تجميد التعاون مع اللجنة يجب أن يصدر في المقام الأول عن السلطة السياسية، لا العسكرية، إلا أنّ الثابت الذي يتقاطع عنده الجميع، هو أنّ الجيش ثبّت مرّة أخرى جدّية لبنان والتزامه باتفاق وقف إطلاق النار، بل حرصه على تنفيذ الآلية التي نصّ عليها الاتفاق صراحةً، والتي يتجاوزها الجانب الإسرائيلية بصورة متكرّرة، فهل يتغيّر هذا الواقع في المرحلة المقبلة؟.
في المبدأ، يقول العارفون إنّ خطوة الجيش اللبناني يوم الخميس الماضي كانت أكثر من مهمّة في الشكل والمضمون، وقد ضربت أكثر من عصفور بحجر واحد، فهي كشفت من جهة "الأهداف الحقيقية" لقصف الضاحية عشيّة عيد الأضحى، بعيدًا عن الذرائع "غبّ الطلب" إن صحّ التعبير، وهي من جهة ثانية، أعادت الاعتبار لاتفاق وقف إطلاق النار، الذي نصّ في مندرجاته، على آليّة واضحة للتنفيذ، وإن كانت "القاعدة" أن يتمّ تجاوزها.
على مستوى الأهداف، يقول العارفون إنّ خطوة الجيش شكّلت "إحراجًا" للجانب الإسرائيلي، الذي حدّد سلسلة طويلة من المواقع، اكتشف فجأة ليلة عيد الأضحى أنّ "حزب الله" يخزّن فيها الأسلحة، أو يعتمدها كمصانع لمسيّراته، فأبدى الجيش جاهزيته للكشف الميداني عليها، وهو ما باشر به، بدخول عدد من عناصره لبعض هذه المواقع، إلا أنّ ذلك لم يعجب الجانب الإسرائيلي، فسارع لشنّ غارات "تحذيرية"، للجيش أولاً، قبل غيره.
ويشدّد العارفون على أن الجانب الإسرائيلي كان بإمكانه على الأقلّ أن ينتظر انتهاء الجيش من عملية الكشف الميداني، لو كان يشتبه فعلاً في أن تكون هذه المواقع عبارة عن منشآت عسكرية، إلا أنّ القاصي والداني يدرك أنّ الجانب العسكري لم يكن سوى ذريعة، تغطي على طبيعة الرسالة السياسية خلف التصعيد، الذي جاء لترويع الناس عشيّة العيد، ولكن أيضًا ردًا على زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى بيروت.
وفي السياق نفسه، يمكن القول إنّ الخطوة أعادت شيئًا من الاعتبار إلى لجنة وقف الأعمال العدائية، التي تحوّل عملها في مكانٍ ما، على مرّ الأشهر الماضية، إلى "تعداد" الخروقات الأحادية للاتفاق، في حين أنّ مهمتها المنصوص عليها في الاتفاق هي أوسع وأكبر من ذلك، وهي تشمل الإشراف على عملية تنفيذ الاتفاق وبلورة آلية ذلك، إلى جانب مراقبة مدى التزام مختلف الأطراف بنصوصه وقواعده ومبادئه.
وجاء كشف الجيش يوم الأحد، على موقع في الضاحية الجنوبية لبيروت، وتحديدًا في منطقة المريجة، ضمن هذا السياق، فهو جاء بعد مزاعم إسرائيلية بوجود مستودع لـ"حزب الله" فيه، على الرغم من أنّه سبق أن تعرّض للقصف والاستهداف، وهو بالتالي أكّد أنّه قادر على الدخول إلى أيّ منطقة لبنانية، للتثبّت من أيّ معطيات ترده، علمًا أنّ ذلك يثير تباينًا في الرأي بين جماهير "حزب الله"، التي اشتكى بعضها من "مداهمة المريجة" مثلاً.
باختصار، يقول العارفون إنّ ما فعله الجيش في الأيام الأخيرة، هو أنه أكد تصميمه على مواصلة تطبيق الاتفاق، ومواجهة "البروباغندا" الإسرائيلية التي تتلطّى خلف منطق "حرية الحركة" لتضرب كيفما تشاء وساعة تشاء، علمًا انّ الالتزام بالاتفاق يفترض منها الرجوع إلى الآلية المحدّدة فيه، على أن تأتي "حرية الحركة" في المرحلة الأخيرة، في حال شعرت بتلكؤ أو تقصير من الجانب اللبناني، أو أنّ الأخير لم يتعامل مع أيّ معلومات على محمل الجد.
بكلام آخر، فقد أكد الجيش "جدية" لبنان الرسمي في تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار بحذافيره، وأنّ ما بدأه في جنوب الليطاني يمكنه فعله في أيّ منطقة أخرى، بما في ذلك الضاحية، علمًا أنّ الجيش أصبح منتشرًا بشكل مكثّف في جنوب الليطاني، حيث فكّك الكثير من المعسكرات التابعة لـ"حزب الله"، كما انّ له حضوره شماله، حيث يقوم بمداهمات بين الفينة والأخرى، وهو ما أصبح جليًا أنه يهدف من خلاله إلى رفض أيّ اعتداءات إسرائيلية.
لكن، هل يعني ذلك أنّ الأمور ستتغيّر في المرحلة المقبلة، وتعود للجنة تطبيق وقف الأعمال العدائية كلمتها، وبالتالي تخفّ الخروقات الإسرائيلية؟ على الأرجح، فإنّ الإجابة سلبية، لأنّ إسرائيل تريد أولاً الإبقاء على عامل "الضغط" الذي تحقّقه خروقاتها اليومية للسيادة اللبنانية، ولأنّ غاراتها، خصوصًا في الضاحية الجنوبية لبيروت، لها أبعاد سياسية أكثر منها عسكرية أو أمنيّة، وهي "ورقة قوة" تريد الاحتفاظ بها، بطبيعة الحال...