من يقرأ عقل نتنياهو بعد "7 اوكتوبر"، ومن يقرأ عقل إسرائيل المتعطشة للخلاص من عقدة غزّة ومن غبار هزائمها المتراكمة، ومن يفك شيفرة الرئيس الاميركي دونالد ترامب العائد إلى البيت الأبيض، يدرك أن اللعبة لم تكن يومًا مجرد ردّ فعل أو مغامرة محدودة أو حتى محاولة تطويق "حماس" و"الجهاد" و"حزب الله"، بل كانت وما تزال خطة محكمة، غايتها الكبرى رأس المحور: إيران.
فمنذ اللحظة الأولى لانفجار بركان الجنوب الفلسطيني، عرف رئيس وزراء الحرب الاسرائيلي بنيامين نتانياهو إلى أين يُريد أن يصل، رغم ظنّ الكُثُر أن "المفاجأة" أوقعت إسرائيل في شَرَك عسكري، لكن القراءة المتأنية للعقل الإسرائيلي وتحديدًا عقل نتنياهو تكشف أن الكيان، كان يعرف أين يريد أن يصل. المعركة على غزة كانت ولا تزال بوابة نحو حرب إقليمية شاملة، تستهدف قلب المحور الذي يشكل خطراً وجودياً على ا الإسرائيلي.
ليس بصدفة أن تتزامن المجازر في غزة مع التصعيد على الجبهات الأخرى: الجنوب اللبناني، الجولان، العراق، واليمن. وليس من العبث أن تصاعدت الاغتيالات في قلب الضاحية الجنوبية، وأن الأجواء اللبنانية باتت مكشوفة أمام طائرات العدو، فيما تتحول الحدود إلى ساحة قصف متبادل مفتوح.
من يقرأ مسار الحرب يرى بوضوح: الهدف ليس إسقاط غزة ولا حتى ضرب حزب الله وحده، بل جرّ المحور كلّه إلى معركة تُبرر لاحقًا الضربة الكبرى: ضرب إيران. وحين تسقط طهران، يسقط رأس المقاومة، وتُستكمل خريطة الشرق الأوسط الجديد، التي بُدِئت بتقطيع أوصال العراق وسوريا وليبيا واليمن.
كذلك فإن ترامب بنسخته الثانية، لم يعد بشعار "أميركا أولاً" بمعناه الانعزالي، بل عاد هذه المرة ليُتم الصفقة الكبرى، بالنار لا بالضغوط السياسية والإقتصادية فقط: تسليم المنطقة إلى إسرائيل كاملةً غير منقوصة، بعد إزالة "الخطر الإيراني" الذي يُزعج واشنطن وتل أبيب وبعض الدول الإقليمية.
في السياق ذاته، لا بد من قراءة التحركات الإسرائيلية الأخيرة في سوريا قبل سقوطها، وهي عبارة عن سلسلة اغتيالات، قصف لمخازن سلاح، واستهداف قادة كبار في الحرس الثوري وحزب الله، وثم الضربة القاضية بسقوط بشار الأسد وهو ما كان بالنسبة لإسرائيل خطوة لازمة على طريق محاولة إسقاط طهران، وهو ما فشلت فيه الحرب الكونية على سوريا طيلة 13 عامًا، لكنها قد تحاول إنجازه الآن من بوابة الحرب الكبرى.
الحقيقة أن لا خداع حصل من إسرائيل أو أميركا لإيران، مَن يظن أن نتنياهو وقيادته وقعا في فخ "7 أكتوبر" فهو يقرأ المشهد بسطحية. إسرائيل وبدعم أميركي ودولي تقبلت الجرح لتطلق حربها على المحور كلّه، الذي حاول تجنب الحرب الواسعة واعتبر أن اسرائيل لا تريدها أو أميركا لا ترغب بها، والنتيجة كانت أن تل ابيب استدرجت المعركة إلى حيث تريد، وجعلت من الدماء في فلسطين ولبنان وسوريا جسراً نحو الحرب الإقليمية الكبرى.
كل الإشارات كانت تقول أن الشرق الأوسط الجديد يُرسم بالنار، وإسرائيل ليست إلا أداة التنفيذ، فيما العقل الأميركي يقف خلف الستار يوزع الأدوار، والمحور الذي تقوده إيران يُفترض أنه كان يدرك اللعبة، ولو حاول تجنبها، وهو يعرف أيضًا أن هذه الجولة ليست ككل الجولات، هي تثبيت الوجود أو الفناء وتسليم المنطقة لإسرائيل بالكامل، فالشرق الأوسط الجديد يُكتب الآن بالدم.