تحمل تصريحات السفير الأميركي توماس براك خلال زيارته لقصر بعبدا يوم الاثنين الفائت، دلالات عميقة حول الاستراتيجية الأميركية الجديدة تجاه ​لبنان​ في عهد الرئيس دونالد ترامب. فعلى الرغم من الطابع الدبلوماسي والبعيد عن الاستفزاز الذي اتسمت به تصريحات براك، إلا أنها تكشف عن مقاربة متدرجة تجمع بين الحوافز والضغوط لدفع لبنان نحو حل شامل لمعادلة السلاح.

يبرز في تصريحات المسؤول الاميركي اعتراف ضمني بالتفريق بين الوجهين العسكري والسياسي ل​حزب الله​، وهو تحول لافت في الخطاب الأميركي. هذا التمييز ليس هفوة او مجرد تعبير، بل يعكس إدراكاً واقعياً لتعقيدات المشهد اللبناني ومحاولة فتح قنوات حوار مع المكونات السياسية دون استعداء مباشر للحزب او لبيئته او طائفته. في المقابل، امتنع براك عن تحديد جدول زمني واضح لنزع السلاح، مشدداً على أولوية تجنب الحرب الأهلية والاعتماد على الحل الدبلوماسي والسياسي. هذا التوجه يشير إلى فهم أميركي لحساسية الموضوع، وإدراك أن الضغط المفرط قد يؤدي إلى انفجار داخلي لا يخدم المصالح الأميركية المعدّة للمنطقة.

كان لافتاً استخدام براك سياسة الجزرة التي كان تحدث عنها، المرتكزة على دغدغة مشاعر اللبنانيين عبر تحفيز الذاكرة بالماضي الذهبي. فعندما يشير براك إلى أن "لبنان كان سويسرا الشرق" ويمكنه العودة إلى ذلك، فإنه يلعب على وتر الحنين إلى عصر الازدهار الاقتصادي والانفتاح. هذا الخطاب يهدف إلى إعادة تشكيل الأولويات اللبنانية، حيث يصبح ​الاستقرار الاقتصادي​ والسياسي أكثر جاذبية من معادلة المقاومة.

والإشارة إلى دبي كنموذج للنجاح الاقتصادي الذي استفاد من الخلافات اللبنانية تحمل رسالة واضحة: إما أن يستفيد لبنان من موقعه الاستراتيجي، أو ستستمر الدول الأخرى في الاستفادة من تراجعه، وفي مقدمها سوريا. هذا التوجه يستهدف النخب التجارية والاقتصادية التي تتضرر من الوضع الراهن، ويدفعها للضغط باتجاه التسوية.

اما القول بأن "إسرائيل لا تريد الحرب مع لبنان"، فهي مقدمة لطرح خيار التطبيع كبديل عن المواجهة. هذا الطرح يتماشى مع استراتيجية ترامب الشاملة في المنطقة، والتي تهدف إلى دمج إسرائيل في النظام الإقليمي الجديد. وهذا بالضبط ما دفعه للإعلان عن بدء الحوار السوري-الإسرائيلي، الذي يتم الكشف عنه رسمياً للمرة الأولى، يهدف إلى كسر الطوق النفسي حول التطبيع. فإذا كانت سوريا، التي تضررت من الحرب لسنوات، تتجه نحو الحوار مع إسرائيل، فإن الرسالة للبنان واضحة: ​العزلة الدبلوماسية​ ستكون مكلفة اقتصادياً وسياسياً. في هذا الكلام تهديد بـ"تخلي العالم عن لبنان"، أي اعتماد الوجه الآخر للاستراتيجية الأميركية. هذا التحذير يستهدف الاطراف السياسية التي تخشى من العزلة الدولية والانهيار الاقتصادي الكامل. ناهيك عن التأكيد على أن "صبر ترامب غير طويل" يضع ضغطاً زمنياً على اللاعبين اللبنانيين. لكن التناقض واضح في هذا الخطاب، إذ يُشيد براك بالرد اللبناني على الاقتراحات الأميركية في الوقت نفسه الذي يهدد فيه بالتخلي عن لبنان. هذا التناقض يعكس تعقيد المشهد اللبناني وصعوبة الوصول إلى حل سريع وشامل.

يبقى الخوف الأكبر في مدى الالتزام الأميركي على المدى الطويل مع لبنان. فالتجربة السابقة مع اتفاق وقف الأعمال القتالية، والتراجع الأميركي عن الرعاية الفعلية لتطبيقه، تثير تساؤلات حول جدية الضمانات الأميركية الجديدة. هذا القلق مبرر، خاصة في ظل التقلبات التي تشهدها السياسة الخارجية الأميركية وتأثيرها على الشرق الأوسط.

تمثل رسائل براك من قصر بعبدا محاولة أميركية لإعادة تشكيل المعادلة اللبنانية من خلال مزج الحوافز بالضغوط. النجاح يتطلب ترجمة هذه الرسائل إلى خطة عمل واضحة تراعي التعقيدات الداخلية اللبنانية، وتقدم ضمانات حقيقية للالتزام الأميركي طويل المدى. وفي مطلق الأحوال، يبقى الرهان على قدرة لبنان والسماح له بالعودة الى لعب دور الجسر بين الشرق والغرب، بدلاً من ان يبقى ساحة للصراعات كل عقد من الزمن.