كأنّ لبنان خُلق ليكون الاستثناء في كل خرائط النار والهدنة، في الحروب كما في التسويات. هكذا يبدو المشهد بعد زيارة المبعوث الأميركي توم باراك، الذي لم يكتفِ بتفقد الخطوط الساخنة في الجنوب، بل فجّر قنبلة سياسية بإعلانه صراحة فشل آلية لجنة مراقبة وقف إطلاق النار، التي شُكّلت بموجب تفاهم تشرين الثاني الماضي. إعلان الفشل هنا ليس مجرد توصيف تقني، بل هو إعلان سياسي بامتياز، بأن اللعبة تغيّرت بالنسبة للأميركيين.
ماذا يعني كلام باراك عن غياب الضمانات الأميركية وفشل آلية الإتفاق؟ تقول مصادر سياسية عليمة أن كلامه يعني النية الاميركية إما بتطوير اللجنة أو استبدال الإتفاق بالكامل، وهو ما ترغب به إسرائيل بطبيعة الحال. لكن الأهم بالنسبة للمصادر أن كل هذا يحتاج بالنسبة للاميركيين إلى إطار سياسي واضح، وتفاهم جديد، من جهة، سلاح الدولة وحصريته، ومن جهة أخرى، انسحاب إسرائيلي ووقف الضربات المتكررة التي استباحت السيادة اللبنانية. فهل نحن أمام طبعة لبنانية من لجان التفاوض السورية؟ وهل اقتربنا من لحظة جلوس "مضطرين" إلى طاولة مع العدو تحت غطاء رعاية دولية وربما عربية؟.
كثير من التسريبات الدبلوماسيّة في الأشهر الماضية تحدّثت عن قنوات أمنية مفتوحة بين سوريا وإسرائيل. وفي حال وقّعت دمشق فعلاً اتفاقاً أمنياً سياسياً، ولو بمستوى هدنة موسعة، فإن الساحة اللبنانية ستشهد ضغوطاً استثنائيّة، إذ يبدو أن المطلب الأميركي بإنشاء لجان تفاوضيّة مع اسرائيل بخصوص الاحتلال والترسيم والأسرى لا يزال مطروحاً على الطاولة.
ترى المصادر عبر "النشرة" أنه بحال وُقع الاتفاق بين سوريا واسرائيل سيجد لبنان نفسه البلد الوحيد الذي ما زال "خارج السياق" ضمن دول الطوق، لا يرتبط بإسرائيل لا من باب التطبيع ولا من باب التفاوض، فهل يُدفع لبنان إلى طاولة تفاوض قسرية عنوانها "وقف دائم لإطلاق النار"، ولكن مضمونها قد يلامس مسارات تطبيعية تدريجية؟.
التصريحات الأميركيّة الأخيرة لم تأتِ من فراغ. واشنطن تحتاج إلى إنجاز ما في الشرق الأوسط، يساعدها في إنتاج أفق سياسي، ومن هنا، فإن فشل لجنة مراقبة وقف إطلاق النار ليس بالضرورة أن يعني العودة إلى الحرب، بل هو دعوة لإنتاج صيغة تفاوضيّة جديدة، هذه المرة برعاية أميركية مباشرة، ولكن لا القوى السياسية اللبنانية جاهزة لتفاوض مباشر، ولا حزب الله يمكن أن يوافق على طاولة فيها رائحة تطبيع، وهكذا، يضع الاميركيون لبنان أمام خيارين: البقاء خارج طاولة التفاوض، مع ما يعنيه ذلك من احتمال تفجّر الجبهة الجنوبية مجدداً وازدياد العزلة، وهو ما ألمح إليه باراك بطريقته المنمّقة، أو القبول بالمشاركة في صيغة جديدة.
زيارة باراك الى بيروت حملت بلاغاً عاجلاً للبنان يطالب إما بإطار سياسي جديد، أو تحمل تبعات الفراغ، وكل المؤشرات تقول إن أصعب معركة الآن ليست في الميدان، بل على طاولة المفاوضات.