تطرح التطورات الأخيرة في المنطقة، خاصة الأصوات السورية غير الرسمية التي تطالب بضم أجزاء من لبنان، تساؤلات عميقة حول التوجهات الحقيقية للنظام السوري الجديد تحت قيادة أحمد الشرع (ابو محمد الجولاني). فبينما تشهد سوريا انفتاحاً دولياً ملحوظاً ودعماً واسعاً، تبدو هناك تيارات داخلية تحمل طموحات إقليميّة قد تعقد المشهد السياسي في المنطقة. تعكس الأصوات السورية غير الرسمية التي تطالب بضم أجزاء من لبنان حالة من التطلع نحو استعادة النفوذ السوري في المنطقة. هذه الأصوات، رغم عدم رسميتها، تشير إلى تيارات داخليّة تؤمن بأن سوريا الجديدة يجب أن تعيد تعريف حدودها وتأثيرها الإقليمي. هذا التوجه يأتي في سياق محاولة استغلال الضعف اللبناني المستمر والأزمات المتفاقمة التي تعصف بالبلاد. من جهة أخرى، يبدو أن هذه الطموحات تتناقض مع الخطاب الرسمي السوري الذي يسعى لبناء علاقات طبيعية مع دول الجوار، مما يطرح تساؤلات حول مدى التماسك الداخلي في الرؤية السياسية للنظام الجديد.
ولكن، ما فات هذا البعض من اصحاب الاصوات السورية، ان رؤيته للواقع الجيوسياسي لا يزال من الحقبة الماضية، ولم يشهد أيّ تعديل او تأهيل ليتماشى مع الواقع الحالي. فسوريا اليوم في اضعف احوالها من الناحية العسكرية والسياسية، بعد ان قضت اسرائيل تماماً على أي مقومات عسكرية قادرة على التصدي لتفوقها العسكري الفائق، كما ان الشرع نفسه غير قادر تماماً على السيطرة على الوضع الميداني، فيما تركيا باتت اكثر من "جارة" لسوريا، اذ باتت بعض الاراضي السورية جزءاً منها.
والقنبلة التي فجّرها السفير الاميركي توماس براك من لبنان وتأكيده بأن الحوار بين سوريا واسرائيل قد انطلق بالفعل (ولم يأخذ هذا الموقف حقه في الاعلام حيث مرّ مرور الكرام)، وهو ما يفسر التزام الشرع بسياسة "الهدوء" تجاه الهجمات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية، وهو قبِل على ما يبدو، بالاستسلام للواقع بسرعة كبيرة، فسلّم بالتطبيع مع اسرائيل، وبعدم الاعتراض على خسارة بعض الاجزاء السوريّة تحت ستار "حسن الجيرة"، غير ان بعض السوريين لا يزالون يعيشون في الحقبة السابقة التي سمحت لهم بالاستقواء على لبنان وتسلّم زمام الامور فيه.
هذه السرعة في الانخراط مع تل ابيب تتناقض بشكل صارخ مع الموقف اللبناني الذي لا يزال يتمسك برفض التطبيع أو الحوار المباشر مع إسرائيل. فلبنان، الذي لا يزال يعاني من تداعيات الحرب الأخيرة ووجود حزب الله كقوة عسكرية وسياسية مؤثرة، يجد نفسه في موقف معقد بين الضغوط الدولية والمقاومة الداخلية لأي تطبيع.
تبدو المفارقة الأكثر إثارة للجدل في الدعم الدولي الواسع الذي يحظى به الشرع، المعروف سابقاً بأبي محمد الجولاني، رغم ماضيه كقائد لجبهة النصرة (الفرع السوري السابق لتنظيم القاعدة)؟ هذا الدعم يعكس حسابات جيوسياسية معقدة تركز على المصالح الاستراتيجية. فنظرة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول العربية إلى الشرع كبديل عملي لنظام بشار الأسد، وكرجل قادر على تحقيق الاستقرار في سوريا، هو رهان محفوف بالمخاطر. هذا الموقف يعكس الواقعية السياسية التي تهيمن على القرار الدولي، حيث يُعتبر الاستقرار أولوية تفوق كل الاعتبارات. لكن هذا الدعم يأتي مع تجاهل واضح للتحديات الداخلية في سوريا، خاصة تنامي قوة الفصائل المسلحة التي تعمل تحت "غطاء شرعي" من النظام الجديد. هذه الفصائل، التي تتمتع بنفوذ كبير في مناطق مختلفة من البلاد، تمارس أشكالاً من الاضطهاد الديني والطائفي، مما يطرح تساؤلات حول قدرة الشرع على السيطرة على هذه الجماعات أو رغبته في ذلك والتناقض الصارخ مع الصورة الوردية التي يحاول النظام الجديد تقديمها للعالم.
هذه التناقضات تطرح تساؤلات حول طبيعة النظام الجديد وأهدافه الحقيقية. فبينما يسعى الشرع لكسب الشرعية الدولية من خلال الحوار مع إسرائيل والدول الغربية، تبدو القوى الداخلية التي يعتمد عليها متجذرة في أيديولوجية راديكالية قد تتعارض مع هذه التوجهات.
تشكل سوريا اليوم مختبراً سياسياً معقداً حيث تتقاطع المصالح الدولية مع الطموحات الإقليمية والأيديولوجيات الراديكالية. الدعم الدولي للشرع، رغم ماضيه الإشكالي، يعكس حالة من الواقعية السياسية التي تضع الاستقرار فوق المبادئ. لكن هذا الاستقرار قد يكون أكثر هشاشة مما يبدو، خاصة مع تعدد القوى المسلحة والأصوات التي تطالب بتوسيع النفوذ السوري إقليمياً -نحو لبنان فقط- وخسارة مساحات اخرى لصالح اسرائيل وتركيا.
في هذا السياق، يبدو أن المنطقة تدخل مرحلة جديدة من عدم الاستقرار، حيث تتصارع قوى مختلفة على إعادة تشكيل الخريطة السياسية والجغرافية. والسؤال الأهم هو: هل يمكن للشرع أن يحقق التوازن بين الضغوط الدولية والطموحات الإقليمية والقوى الداخلية الراديكالية؟ أم أن سوريا ستشهد مرحلة جديدة من الصراعات الداخلية والإقليمية؟.