انعقد ​المجمع المسكوني​ُّ الرابع في العام 451 م في خلقيدونية (تركيا حاليًّا)، بحضور ما لا يقلُّ عن 630 أسقفًا من الإمبراطوريَّة الرومانيَّة قاطبة. وقد أُعلن فيه بوضوح إيمان الكنيسة المسيحيَّة بشأن الربِّ يسوع المسيح، بأنَّه شخص واحد ذو طبيعتين كاملتين: إلهيَّة وبشريَّة، من دون أن تلغي واحدةٌ الأخرى. وهذا تمامًا ما أعلنه يسوع، ونقله إلينا الرسل الأطهار، ونحافظ عليه بالروح القدس.

إنَّ الحضور الكبير للآباء في هذا المجمع، بدعوة من الإمبراطور الرومانيِّ مارسيان، وتسهيل عمليَّة النقل والحماية، يسلِّط الضوء على أهمِّيَّة الموضوع المعالَج فيه. ويُعتبر هذا المجمع الأكبر من ناحية عدد الحضور.

تكمن أهمِّيَّة المجامع المسكونيَّة السبعة في الألفيَّة الميلاديَّة الأولى في أنَّ كلَّ مجمع انعقد، صادق على المجمع الَّذي سبقه. هذا الأمر يُعطي شرعيَّة للمجامع المنعقدة، بأنَّها على نفس التسليم الشريف المُسلَّم إلينا منذ البداية. وهذا تمامًا هو معنى أن يكون كلُّ مجمع منعقد في الكنيسة - صغيرًا كان أم كبيرًا، محلِّيًّا كان أم جامعًا - ضمن بطريركيَّة واحدة لمعالجة شؤون داخليَّة أو على نطاق أوسع — شرعيًّا، إذا كان على نفس إيمان المجامع المسكونيَّة. وهذا هو تمامًا معنى أنَّ الكنيسة الأرثوذكسيَّة هي كنيسة مجمعيَّة (conciliaire).

قد يظنُّ البعض خطأً أنَّ المجمعيَّة تعني أنَّ القرارات في المجمع تأتي من أكثريَّة الأساقفة الحاضرين، برئاسة البطريرك الَّذي يدعو إلى انعقاد المجمع. لكنَّ الأمر ليس كذلك إطلاقًا، لأنَّ المعيار هو تطابق القرارات مع التسليم الشريف، وبخلاف ذلك، يُعتَبَر المجمع مرفوضًا. ولهذا يبدأ البيان المجمعيُّ دائمًا بعبارة: قَدْ رَأَى الرُّوحُ الْقُدُسُ وَنَحْنُ" (أعمال 15: 28). تضع هذه الآية المجتمعين أمام استحقاقٍ إلهيٍّ، لأنَّه من المفروض أن تكون قد سقطت المصالح الشخصيَّة والتركيبات البشريَّة، ليَنطق الروح القدس.

بالعودة إلى المجمع الخلقيدونيِّ، فبما أنَّه المجمع الرابع، يَجدر بنا التوقُّف عند نتائج المجامع المسكونيَّة الثلاثة الأولى.

المجمع الأوَّل انعقد في نيقية عام 325 م، وكان ردًّا على هرطقة آريوس (Arius) الَّذي أنكر ألوهيَّة يسوع المسيح. فأكَّد المجمع أنَّ المسيح مولود غير مخلوق، واحد في الجوهر مع الآب، ووُضع القسم الأوَّل من دستور الإيمان حتَّى عبارة "وبالروح القدس". كما نَظَّم موعد الاحتفال بعيد الفصح.

المجمع الثاني انعقد في القسطنطينيَّة عام 381 م، ردًّا على هرطقة مكدونيوس (Macedonius)، بطريرك القسطنطينيَّة النصف آريوسيّ، وأتباعه الَّذين أنكروا ألوهيَّة الروح القدس، وعلى أبوليناريوس (Apollinarius)، أسقف اللاذقيَّة، الَّذي أنقص من بشريَّة يسوع الكاملة لصالح ألوهيَّته. فأكَّد المجمع أنَّ الروح القدس ينبثق من الآب، كما قال يسوع لتلاميذه[1].

وأكَّد المجمع أنَّ الروح القدس هو الربُّ المحيي، كما الآب والابن، وله معهم السجود والتسبيح. كما أكمل المجمع صياغة دستور الإيمان، وأقرَّ أنَّ لأسقف القسطنطينيَّة الكرامة الثانية بعد أسقف رومية، نظرًا لكون القسطنطينيَّة "رومية الجديدة". الكرامة لا تعني سلطة، لأنَّ الأساقفة متساوون، و"التقدُّم" يعني أن يكون الأوَّل بين متساويين، فالمسيح وحده هو صاحب السلطان الأبديِّ، الحاضر في كلِّ مجمع.

المجمع الثالث انعقد في أفسس عام 431 م، وكان ردًّا على هرطقة نسطور (Nestorius)، بطريرك القسطنطينيَّة، الّذي اعتبر أنَّ المسيح إنسان قد اتَّحد بابن الله، ولذلك - بحسب اعتقاده - يجب أن تُدعى مريم "والدة المسيح" لا "والدة الإله". فأكَّد المجمع أنَّ المسيح شخص واحد، إله كامل وإنسان كامل، وأنَّ العذراء مريم هي بحقٍّ "والدة الإله" (Theotokos)، ورفض المجمع أيَّ تقسيم في الأقنوم الواحد للمسيح.

إنَّ عبارة "والدة الإله" ليست من اختراع البشر، بل وردت في الكتاب المقدَّس على لسان أليصابات، كما أعلنها الملاك لمريم بقوله إنَّ المولود منها يُدعى ابن الله.

إذًا كلَّ الهرطقات دارت حول سرِّ الكلمة الإلهيِّ، الَّذي صار إنسانًا وبقي إلهًا. وهذا ما أوضحه المجمع النيقاويُّ الأوَّل، الَّذي يُعتَبر الأساس العقائديَّ لكلِّ المجامع اللاحقة. فبإنكار ألوهيَّة المسيح لا يبقى من المسيحيَّة شيء.

أمَّا مجمع خلقيدونية (451 م)، فقد ردَّ بحزم شديد على ديوسقوروس (Dioscorus)، بطريرك الإسكندريَّة، وعلى الراهب أوطيخا (Eutyches) القسطنطينيِّ وأتباعهما، الَّذين جحدوا وجود الطبيعتين الكاملتين في المسيح: الإلهيَّة والبشريَّة. فأقرَّ المجمع أنَّ المسيح ذو طبيعتين — اللاهوتيَّة والناسوتيَّة — متَّحدتين في أقنوم واحد، بدون اختلاط ولا امتزاج ولا انفصال.

هنا لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ مجمع خلقيدونية جاء تصحيحًا للمجمع الَّذي انعقد في أفسس عام 449 م، وتبنَّى بدعة الطبيعة الواحدة للمسيح (Monophysisme)، والَّتي تقول بأنَّ الطبيعتين الإلهيَّة والبشريَّة قد اتَّحدتا في المسيح لتُكوِّنا طبيعة واحدة بعد التجسُّد. أعلن هذه الهرطقة أوطيخا (Eutyches)، وهو راهب ورئيس دير في القسطنطينيَّة في القرن الخامس، في ردِّه المتطرِّف على النسطوريَّة، فقال: "في المسيح طبيعة واحدة فقط بعد التجسُّد، لأنَّ الطبيعة البشريَّة ذابت في اللاهوت كما تذوب قطرة عسل في المحيط".

رفض مجمع محلِّيٌّ في القسطنطينيَّة عام 448 م هذه البدعة، وحرَم أوطيخا. لكنَّ ديوسقوروس، بطريرك الإسكندريَّة، عقد مجمعًا في أفسس عام 449 م، أعاد فيه أوطيخا إلى الشركة، مستخدمًا العنف والضغط ضدَّ خصوم أوطيخا. ولهذا دُعي ذلك المجمع فيما بعد بـ "اللصوصيِّ Latrocinium".

أمَّا في مجمع خلقيدونية، فجاء الردُّ الحاسم على كلٍّ من النسطوريَّة والمونوفيزيَّة. وكان من أبرز هذه الردود ما قدَّمه أسقف روما، البابا لاون الكبير (400–461م). فإنَّه لم يحضر شخصيًّا، لكنَّه أرسل رسالةً عقائديَّة شهيرة، عُرفت بـ "الطومس اللاونيِّ" (Le Tome de Léon)، شرح فيها الإيمان الأرثوذكسيَّ، قائلاً إنَّ: "المسيح هو إله كامل وإنسان كامل، له طبيعتان متَّحدتان في شخص واحد، بدون اختلاط، ولا تغيير، ولا انقسام، ولا انفصال".

وعندما قرأ آباء المجمع هذا النصَّ، قالوا بصوت واحد: "هذا هو إيمان الآباء! هذا هو إيمان الرسل! بطرس قد تكلَّم بفم لاون!".

هذا العرض الموجز هدفه أن نتواضع، ونجعل من الروح القدس المفسِّر الحقيقيَّ للإيمان المستقيم، لنكون حقًّا واحدًا كما أرادنا الربُّ.

أمَّا إذا تمسَّكنا بالكراسي والمصالح، فستبقى المآسي حتمًا.

إلى الربِّ نطلب.

[1]. "وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ، رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي" (يوحنَّا 15: 26).