في أمرِ الوجودِ، لا بُدَّ مِنَ التَفاضُلِ والتَكامُلِ. والأهَمُّ القَصدُ، وَهو الإستِغراقُ في مَنبِتِ الوجودِ. وَهذا يَستَدعي بُلوغَ وَضعٍ كيانِيٍّ يُتيحُ لِلمَوجودِ الكَشفَ عَن حَقيقَةِ ذاتِهِ. هُنا ذُروَةُ البُلوغِ: المُثولُ في الحَضرَةِ. قُلّ: المُثولُ واغِلاً في مُعانَقَةِ الكَشفِ.
بَل هُنا بَعضٌ مِن سِرِّ الأُلوهَةِ في الإنسانِ إذ الإنسانُ إمَّا الى هُروبٍ وإمَّا الى عَثرَةِ الخَطَواتِ.
تِلكَ مَسيرَةُ المَسيحِ مَعَ بُحَيرَةِ "جينيساراتَ" ‒ِنِسبَةً الى البَلدَةِ الُلبنانِيَّةِ-الفينيقِيَّةِ‒، بُحَيرَةُ-بَحرِ الجَليلِ-طَبَرَيَّةَ، ألْمَنبَعُها مِن لبنانَ حاضِنِها-في-الوجودِ، سياجُها-في-الجَوهَرِ، الى ما بَعدَ كيانِيَّتَها الزَمكانِيَّةِ التي هي مِنهُ وَفيهِ، بِحَيثُ تَرتَفِعُ مِنهُ الى يَقينِ الأُلوهَةِ القاطِعِ.
أهي لِلُبنانِها بَعضٌ مِن سِرِّهِ: أرادَةٌ إنسانِيَّةٌ-إلَهِيَّةٌ واحِدِيَّةٌ؟ قَد يَخرُجُ إنسانٌ في زَورَقِهِ، على إنبِساطِها وَهي هادِئَةٌ، وإذ بِخَطٍّ يُسَطِّرُ ذاتَهُ في أُفُقِها-البَحرِ لِيَهُبَّ عاصِفَةً. وَفي لَيلِها، يَحدُثُ أن تَصِلُها وَلوَلَةُ ريحٍ شِمالِيَّةٍ مُنحَدِرَةٍ مِن قِمَمِ لُبنانِها-البَحرِ، فَتَرتَفِعُ أمواجُها صَخَباً يَستَجدي لإنسانِها ألَّا تُزهَقَ روحٌ.
أثَباتُها، في الريحِ؟ بَل في صَميمِ كِيانِيَّةِ الأُلوهَةِ في الإنسانِ: "وَفي أحَدِ الأيَّامِ رَكِبَ (المَسيحُ) سَفينَةً وَتَلاميذُهُ، فَقالَ لَهُمُ: لِنَعبُرَ إلى عَبرِالبُحَيرَةِ. فأقلَعوا. وَفيما هُمُ سائِرونَ نَامَ. فَنَزِلَ نَوءُ ريحٍ في البُحَيرَةِ، فَكادَ الماءُ يَغمُرُهُم، وأصبَحوا على خَطَرٍ. فَدَنَوا مِنهُ وَأيقَظوهُ قائِلينَ: يا مُعَلِّمُ! يا مُعَلِّمُ! إنَّنا نَهلِكُ. فَقامَ وَإنتَهَرَ الريحَ والمَوجَ، فَسَكنا وَصارَ الهُدوءُ. فَقالَ لَهُمُ: أينَ إيمانُكُمُ؟ فَخافوا وَتَعَجَّبوا قائِلينَ في ما بَينَهُمُ: مَن هو هذا؟ الرياحُ والأمواجُ يأمُرُها فَتُطيعُهُ!" (لوقا 8/22-25).
أوَلَيسَ ثَباتُها مِنَ الأُلوهَةِ، بِوَجهِ الريحِ؟ بَل في صَميمِ تَدبيرِ الأُلوهَةِ لِلإنسانِ: "عِندَ آخِرِ الَليلِ، جاءَ إلَيهِمِ ماشياً على البَحرِ. فَلَمَّا أبصَرَهُ التَلاميذُ ماشياً على البَحرِ، إضطَرَبوا قائِلينَ: هذا خَيالٌ! وَمِن خَوفِهِمِ صَرَخوا. فَبادَرَهُم بِقَولِهِ: ثِقوا. أنا هو، لا تَخافوا! فأجابَهُ بُطرُسُ: يا رِبُّ، إن كُنتَ إيَّاهُ، فَمُرني أن آتيَ إلَيكَ على الماءِ. فَقالَ: تَعالَ! فَنَزِلَ بُطرُسُ مِنَ السَفينَةِ وَمَشى على الماءِ آتياً لِيَسوعَ. لَكِنَّهُ خافَ عِندَما رأى شِدَّةَ الريحِ. وإذ إبتَدأ يَغرَقُ، صَرَخَ: يا رَبُّ، نَجِّني! فَمَدَّ يَسوعُ يَدَهُ لِوَقتِهِ وَأمسَكَ بِهِ وَقالَ لَهُ: يا قَليلَ الإيمانِ، لِماذا شَكَكتَ؟ وَلَمَّا دَخَلا السَفينَةَ، سَكَنَتِ الريحُ، فَسَجَدَ لَهُ الَذينَ في السَفينَةِ وَقالوا: بالحَقيقَةِ أنتَ إبنُ اللهِ! وَعَبَروا حَتَّى بَلَغوا البَرَّ عِندَ جينيساراتَ." (مَتَّى 14/25-34).
كِفايَةُ الإيفاءِ
مِن تَأهُّبِ الضَبطِ الى ضَبطِ التَأهُّبِ، لبنانُ زَمكانِيَّةُ الِلقاءِ الأوَّلِ والحُبِّ الأوَّلِ بَينَ الأُلوهَةِ وَالإنسانِ: مِنهُ وإلَيهِ بِدايَةُ الآياتِ-البِداياتِ. إلَيهِ وَمِنهُ تَهدِئَةُ الرياحِ والأمواجِ. الإنتِصارُ على لَيلِ العَواصِفَ. في تَحقيقِ الوجودِ بالأُلوهَةِ، والأُلوهَةِ بالوجودِ.
ألبنانُ إيجادُ الوجودِ في الجَوهَرِ، إذ الأُلوهَةُ إحتِرامُ الوجودِ بالغَوصِ في العُمُقِ حَدَّ كِفايَةِ الإيفاءِ لِحَقِّ الوجودِ في الجَوهَرِ... الحَيِّ؟
ألبنانُ باعِثُ مِعنى الأُلوهَةِ هذا في وَلِلعالَمِ؟.
أجَل! لبنانُ، ألْمِنهُ تِلكَ البُحَيرَةُ-العالَمُ، مِنَ الإسمِ-المُحتَوى الى السِرِّ-الناشِدِ وَمِنَ الكَشفِ الى الوجودِ-المَوجودِ والجَوهَرِ-الواجِدِ، مَنبَعُ مِعنى الأُلوهَةِ المُحَقَّقِ في مِلءِ الحَقيقَةِ، حَيثُما هي بالفِعلِ: "وَخَرَجَ ثانِيَةً إلى البَحرِ، فأتاهُ الجَمعُ كُلُّهُ، فَأخَذَ يُعَلِّمُهُمُ." (مَرقُسَ 2/13).
مِن دونِ لُبنانِهِ، ذاكَ العالَمُ-البُحَيرَةُ مُستَنقَعٌ يُشاهِدُ أمرَ الوجودِ. بِهِ، لُبنانُهُ، كِيانِيَّةُ فِعلِ الجَوهَرِ المُخَلِّصِ مِنَ الهَلاكِ كُلَّ وجودٍ وَكُلَّ الوجودِ... في عُمقِ الأُلوهَةِ.