يُواجه لبنان اليوم أزمةَ نِظامٍ شامِلةٍ، تتخطَّى الإشكالَ السياسيّ لتطال البُنى الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة، بل والهويَّة الوطنيَّة. ومع استمرار الأزمات المُتراكمة، تتعمّقُ القناعةُ لدى جزءٍ كبير من المُواطنين بأن تطبيقَ نِظامٍ سياسي سليم بات أمرًا بعيد المنال. فهل فعلًا نحن عاجزون عن بناءِ دولةِ المُواطنَة والمؤسَّسات؟ أم أن التغيير لا يزال ممكنًا إذا توافرت الإرادةُ؟

أولًا: معوّقات بِناء نِظام سياسي سليم في لبنان

1​- الفسادُ المُمنهجُ

الفسادُ في لبنان ليس مجرَّد حالات فرديَّة، بل يُشكّلُ نِظامًا مُتكاملًا قائمًا على المحسوبيَّات والصَّفقات المشبوهة. وفقًا لتقارير “مُنظَّمة الشفافيَّة الدوليَّة”، يحتلُّ لبنان مراكز متأخِّرة جدًا في مؤشِّرات الفسادِ، نتيجةَ غيابِ الشفافيَّةِ والمُساءلةِ. (Transparency International, 2024)

​ 2- غيابُ المحاسبةِ واستقلاليَّةِ ​

لا يمكن لأيّ نِظام أن يُعتبر سليمًا من دون قضاء مُستقلّ ونزيه. في لبنان، القضاءُ خاضعٌ للتجاذبات السياسيَّة والطائفيَّة، ما يحُدُّ من قُدرته على مُحاسبة الفاسِدين وفرض سِيادة القانون.

​3- الطائفيَّة السياسيَّة

يُعزِّزُ النِظام الطائفي اللُّبناني الولاءات الضيِّقة ويُضعفُ الانتماء الوطنيّ. هذا الوضعُ يُعيقُ بناء دولةِ المُواطنة ويُنتجُ زَعاماتٍ تعتمدُ على “القبليَّةِ السياسيَّةِ” بدل الكفاءة والمصلحة العامة.

​​ 4- انعدامُ الوعي السياسي والثقافة المدنيَّة

ما زالَ جزءٌ كبيرٌ من الشَّعبِ اللُّبناني يفتقرُ إلى ثقافةٍ ديمقراطيَّةٍ ومُشاركةٍ واعيةٍ في الحياة العامة، النتيجة، تعزيز الخُضوع للأمر الواقع وإضعافِ قُدرة المُجتمَع على الضَّغط من أجل التغيير.

​5- التدخُّلاتُ الخارجيَّة

تاريخُ لبنان الحديث حافلٌ بالتجاذبات الإقليميَّة والدوليَّة التي تُضعفُ سيادتَه وتُعمِّقُ الانقسامَ الداخلي. من إيران إلى السعودية، ومن فرنسا إلى الولايات المتحدة، تحوَّل لبنان ساحةً لصِراعات المصالِح بدل أن يكون دولةً ذات قرارٍ مُستقلّ.

​​ 6- توارُث السُّلطة واحتكارُها

يغيبُ التداولُ الحقيقي للسُّلطة في لبنان، إذ غالبًا ما تنتقلُ المناصبُ بالوراثةِ السياسيَّةِ، هذا الوضع بالذات يمنعُ التجديد السياسي ويُعزز ثقافة “الزعيم” بدل “البرنامج.”

​ 7- ضُعف المُجتمَع المدني

رُغم الحراك الشعبي في 17 تشرين الأول 2019، لا يزالُ المُجتمَع المدني في لبنان يُعاني من ضُعف التنظيم والقُدرة على إحداث تأثير ملموس في الحياة السياسيَّة.

​8- الأزمات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة

الانهيار المالي والنقدي، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، حصرا اهتمام المواطن في تأمين أساسيَّات الحياة اليوميَّة، فضعُفت، بالتالي، قُدرته على المُطالبة بالإصلاحات السياسيَّة والحقوقيَّة.

ثانيًا: معايير النِظام السياسي السليم

*لا يُبنى النِظام السياسي السليم على القوانين، فحسب، بل على منظومة مُتكاملة من المبادئ التي تضمن:

*​​سيادة القانون​ واستقلال القضاء.

*​​الفصل بين السُّلطات التشريعيَّة والتنفيذيَّة والقضائيَّة

*​​العدالة والمُساواة أمام القانون

*​​مُشاركة سياسيَّة فعّالة ومُنظَّمة

*​شفافيَّة ومُساءلة في إدارة الشأن العام

*​​احترام الحريَّات الفرديَّة وحُقوق الإنسان

*​​تمثيل شعبي حقيقي وغير مشوّه

*​​استقرار سياسي مبني على توافُق وطني لا على المُحاصصة

وفقًا لتقارير الأُمم المتَّحدة والبنك الدولي، تُحقّق الدول التي تطبّق هذه المبادئ، مُعدَّلات تنمية واستقرار أعلى على المدى الطويل. (World Bank Governance Indicators, 2023)

ثالثًا: لبنان، هل يمكن أن يُصبحَ مثالًا؟

السؤال المُلحّ: لبنان، هل يُمكن أن يُصبحَ دولةً تُمثّل نموذجًا لنِظام سياسي سليم؟ يستحيلُ ذلك من دون تفعيل المُواطنة، أي إشراك الفرد في الحُكم والمُساءلة، لا أن يبقى تابعًا لزعيم أو طائفة.

تغيير الذهنيَّات هو المدخل الضروري لأي تغيير سياسي، فضلًا عن ضرورة استبدال الثقافة الطائفيَّة، والخضوع، والتبعية، بثقافة المُواطنة، الحُقوق والواجبات.

رابعًا: الطريق إلى الإصلاح

*​إصلاحُ القضاء وتعزيزُ استقلاليَّتِه

*​​إقرارُ ​قانون انتخابي​ّ عادِل غير طائفي

*​إطلاقُ خُطَّةٍ وطنيَّةٍ لمُكافحة الفساد بشفافيَّة دوليَّة

*​تعزيز التعليم المدني والسياسي في المدارِس والجامِعات

*​​تمكين المُجتمَع المدني ليكون قوَّةَ رِقابةٍ وضغطٍ فاعلةً

*​القطع مع المُحاصصة الطائفيَّة لمصلَحة الكفاءة

*​ضمان حماية اجتماعيَّة وخدمات أساسيَّة للقضاء على الاستغلال السياسي للفقر

خاتمة: هل نتعلّم؟ هل نحلم؟

لبنان اليوم أمام مُفترق طُرق، إما البقاء في مُستنقع النِّظام الطائفي المُفكّك، أو بناء عَقد اجتماعي جديد يؤسِّس لدولة القانون والعدالة.

يقول الكاتب الإيطالي أنطونيو غرامشي: "الأزمة تحدُث عندما يموت القديم، ولا يستطيعُ الجديد أن يولد".

هل نسمح للجديد أن يولد؟ أم ننتظر جيلًا آخر يُكرِّرُ السؤالَ ذاتَه؟!

رُغم التحديَّات التي تواجه لبنان، من أزماتٍ اقتصاديَّة عميقة، وفسادٍ مستشرٍ، إلى نِظام سياسي مأزوم، هنالك فُرصة حقيقيَّة لبناء عالم أفضل، لكن لا يتمّ ذلك عبر الأمنيات أو الخطابات، فحسب، بل من خلال تجديد النِظام السياسي على أُسس المُواطنة، الشفافيَّة، والعدالة.

تجديد النِظام السياسي في لبنان هو المدخل الضروري للخُروج من دائرة الانهيار، والمفتاح لاستعادة الثقة بين المُواطن والدولة، دولة لا تقوم على المُحاصَصة والطائفيَّة، بل على المؤسَّسات المُستقلَّة، والقانون العادِل، والمُشاركة الشعبيَّة الحقيقيَّة.

لبنان قادرٌ على النُّهوض مجددًا، ليس لأنه غنيّ بالموارد والطاقات البشريَّة، فحسب، بل لأن الشُّعوب التي اختبرت القاع، لديها قدرة فريدة على إعادةِ بناء ذاتها… شرط أن تؤمن بأن التغيير مُمكن، وأن تعملَ لأجلِه.

عالمٌ أفضل في لبنان ليس حُلمًا طوباويًّا، بل خيارًا حتميًّا… إما أن نُنجزَه، أو نُضيّعَ الفُرصة الأخيرة.

يقول جبران خليل جبران: "ويل لأمة قُسِّمت إلى أجزاء وكل جزء يحسب نفسه فيها أمَّةً".

فليكُن الجيلُ الجديدُ الحالمُ بدولة المؤسَّسات وحُقوق الإنسان هو الذي يُعيدُ جمع الأجزاء… على أملٍ لا يموت.

إلى من بيدِهم القرار في لبنان… هل تَعون خُطورةَ ما أنتُم عليه؟

لا بُدّ من وقفةِ ضمير أمام واقعِ وطنِنا المُرّ: كيانٌ يذوب أمام أعيُننا، ليس بسبب الأزمات المُتلاحقة، فحسب، بل لأنكُم تُصرّون على إدارة دولة من منطلق طائفي ومذهبي ومحاصصيّ، وكأن الوطنَ مجرّد "قِطعة جِبنة" تتقاسمونها.

ال​سياسة​ُ التي تُمارَس بلا ضمير، تُحوّل المُواطنَ إلى لاجئ في وطنه.

وطنٌ يُنهشُ من أجل مصالحَ ضيِّقةٍ، لا ينهضُ، بل ينهار.

عجِزتُم - بل أثبتُّم فشلكُم الدائم- في تأمين أبسط مقوِّمات العيش الكريم: لا كهرباءَ مُستدامةً، لا ماء كافيةً ، لا طُرقاتٍ آمنةً، لا طِبابةَ مجانيةً، لا تعليمَ متقدِّمًا، ولا أدنى مُستويات العدالةِ الاجتماعيَّة. زاد التلوُّث، وانتشر الفقرُ، وتفشّى الجهلُ، وترسّخَ الفسادُ، حتى باتت الدولة كيانًا بلا روح، بلا رؤية، بلا أمل.

لم تُقدّموا شيئًا سوى مزيد من السوء، والبلاد تتدحرجُ من سيّئ إلى أسوأ، حتى صارت على حافة الاضمحلال الكامِل.

كُفّوا عن تقاسُم وطنٍ يُحْتَضَرُ...

لبنان ليس غنيمةً، بل أمانة في أعناقِكُم، والتاريخُ لن يرحم.

الشَّعبُ، وإن طال صبرُه، لن يبقى ساكنًا إلى الأبد، مع أننا شاهدنا بأُمّ العين، أكثر من مرّة، تخاذُلَ فئة كبيرة منه. لن ندخُلَ في الأسباب كي لا يزيدَ إحباطُنا.

هل سيصبح لبنان بلدًا يُحكَم بواسطة المؤسسات؟

ربَّما… كلا.

لأننا لم نؤمن بعد بأن الدولة لا تُبنى بالشِّعارات، بل بالعدالة.

ولم نفهم بعد أن المُواطنة ليست انتماءً طائفيًا، بل التزام بالقانون والحقّ.

ربَّما كلا، لأننا ما زلنا نُراهنُ على زعيمٍ لا على نِظامٍ...

لكن، ربّما يومًا ما، إذا تغيّرت العُقولُ قبل النُّصوص، تُصبح "ربَّما" بداية لـ "نعم"؟

“كل شيء سيكون على ما يرام، إنما مُختلف”.

*رئيس جمعيّة عدل ورحمة

مراجع ومصادر علميَّة:

​​مُنظَّمة الشفافيَّة الدولية، مؤشر الفساد العالمي: 2024 https://www.transparency.org

​​البنك الدولي، مؤشرات الحوكمة العالمية 2023: https://info.worldbank.org/governance/wgi/

​​تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية 2023 – UNDP Lebanon.

​​نزار يونس، “إصلاح النِظام اللُّبناني”، منشورات المركز اللُّبناني للدراسات 2022.

​​حنّا بطاطو، “الطائفيَّة والسياسة في المشرق”، دار الساقي 2018.

نجيب بعقليني، "عالمنا المترنح بين خريف العولمة والتحولات الجيوسياسيَّة"، دار سائر المشرق، 2025.