في الجوار السوري، تشتعلُ المشاهد الطائفيّة على أكثر من جبهة. من الجنوب السوري حيث التوتر في محافظة السويداء، إلى شمال البلاد حيث التنظيمات المتطرّفة تزدحم في إدلب وريف حلب، وصولاً إلى الشرق المترنّح بين الأكراد والاحتلال الأميركي… كلّها مشاهد تقول إن سوريا تعيش فصلاً من الفوضى بلبوس مذهبي يؤجّجها أصحاب المشروع التقسيمي، وان المرحلة المقبلة قد تحمل في طيّاتها احتمالات انفجار كبير قد يطال جوار سوريا.

فماذا عن لبنان؟ البلد الجار الذي يُعاني من احتلال إسرائيلي وعدوان يومي، وضعف امام المشاهد المذهبية، هل يستطيع أن يظل بمنأى عن هذا الاشتعال الطائفي المتجدد؟ وهل تمتلك أجهزته الأمنيّة والسياسيّة والمجتمعية الأدوات الكافية لمنع انتقال الشرر السوري إلى ساحاته؟.

لا تخفي مصادر أمنية لبنانية قلقها من السيناريو الأسوأ. فبحسب ما كشفته لـ"النشرة"، فإن الأجهزة ترصد منذ أسابيع مؤشّرات ميدانية مقلقة على الحدود الشماليّة والبقاعية، أبرزها تحرّكات غير تقليديّة على الجهة السوريّة، دون تبيان أهدافها، ولو أنّ الدولة تلقت تطمينات من الدولة السوريّة بشأنها، مشيرة إلى أن ذلك قد لا يمكن فصله عن تفعيل لبعض المجموعات أو الأفراد في لبنان.

هذه التحركات، بحسب المصادر، لا تبدو معزولة عن سياق إقليمي مريب، تسعى بعض أطرافه، وتحديداً العدو الإسرائيلي، إلى استثمار الفوضى السوريّة وإعادة تصديرها إلى الساحة اللبنانية، خصوصًا في البيئات الهشّة والمعزولة.

غير أن الخطر لا يأتي فقط من خارج الحدود. في الداخل، تُشكّل هشاشة البنية اللبنانية الطائفية أرضًا جاهزة للاشتعال. النظام السياسي القائم على المحاصصة لا ينتج إلا المزيد من الانقسام، ومؤسسات الدولة التي تفككت بفعل الأزمة الاقتصادية باتت عاجزة حتى عن ضبط الأمن الغذائي.

الخطر الأكبر اليوم يكمن في أن يتحوّل أي حادث أمني بسيط إلى شرارة فتنة لا يمكن السيطرة على نيرانها، وفي ظلّ هذا الواقع، تبدو مسؤوليّة المواجهة جماعيّة، ومتعددة المستويات، إذ تؤكّد المصادر أن الأجهزة الأمنية وحدها لا تستطيع خوض هذه المعركة. لكن عليها أن تكون في الطليعة، عبر رصد استباقي دقيق، وتنسيق بين المؤسسات المعنيّة، وعدم التهاون مع أي اختراق مهما كان صغيرا، فالمطلوب اليوم هو الضرب بيدٍ من حديد لكل محاولة لزعزعة الاستقرار، خصوصًا في المناطق ذات الحساسية المذهبية العالية.

أما الطبقة السياسية، فهي مطالبة بأن تضع حداً لخطابات التحريض والشحن الطائفي، خصوصاً عبر الإعلام والمنصّات الرقميّة، إذ لا يمكن الاستمرار في تبرير المتورطين أو تغطية المتجاوزين لمجرد انتمائهم إلى "البيت السياسي" أو "البيئة الحاضنة". لا بد من إعادة الاعتبار إلى منطق الدولة، لا دويلة الطوائف.

وفي العمق الاجتماعي، فإنّ للمجتمع اللبناني الدور المحوري في كسر دوامة الفتنة من خلال الوعي الشعبي، والمسؤولية المدنيّة، ودور رجال الدين والتربويين والعائلات الكبرى، يمكن تشكيل حزام أمان وطني يرفض الانجرار وراء مشاريع التجييش. لبنان، الذي عرف مرارات الحرب، لا يجب أن يسمح بإعادة استحضار أشباحها، خصوصا إذا كان الفاعل هذه المرّة يتلطّى خلف شعارات دينية ومذهبية ممسوخة.

المسألة لم تعد ما إذا كان الخطر قادما، بل متى، وما إذا كان لبنان قد تعلّم من تجاربه السابقة، أم أنه ما زال يعيش في ظلّ ذاكرة مثقوبة لا تحفظ إلا أصوات الرصاص، ولا تنسى إلا دروس النجاة.