رحل ​البابا فرنسيس​، تارِكاً في دُرج مكتبه مئة دولار. تَصَوّروا مئة دولار فقط! ولكنه احتفظ بحذائه الأسود البالي الذي أُلبِس إيّاه وهو ممدّد في نعشه، وقد عَيّب على الكبار، أو مَن يظنّون بأنهم كبار، جشعهم وبَطَرهم وجوعهم إلى ثروات الدنيا وأمجادها وبهارجها وزخارفها، وعلى بعض "أُمراء ​الكنيسة​" الأمر نفسه. عاش البابا فرنسيس فقيراً كمار فرنسيس شفيع حبريته، ومات فقيراً كمار فرنسيس، وككلّ فقير في هذا العالم الجائر. ومع أنه كانت لديه كلّ مقوّمات العيش الغنيّ، اختار ​الفقر​ حياةً وموتاً كمعلّمه، وككلّ الذين تشَبَّهوا بيسوع في حياته وموته.

تنازل البابا الرّاحل فرنسيس عن مواد الغِنى وعاش حياةً بسيطة: لباسه بسيط... حذاؤه بسيط...مكان إقامته بسيط...غرفته بسيطة... سريره بسيط. لَم يُبالِ لا بسرير ولا بهندسة وتزيين غرفة لتكون على قدر المقام والمكانة، ولا بأيّ شيء يُلهيه عن محبّة الله ومحبّة إخوته؛ فالعظمة الحقيقيّة لا تحتاج إلى الفخامة، ولا إلى مظاهر الثراء والرّفاهية، وإنما إلى قلوبٍ مليئة بالحُبّ. وسيبقى ثوبه وحذاؤه شاهدين على تواضعه، وستبقى غرفته شاهدة على عظمته؛ فكلّما فرغت الغرف من الأثاث امتلأت من نور الله، وكلّما تكدّس فيها الأثاث، وتراكمت فيها الهدايا الثمينة، فرغت من نوره، وأضحت هيكلاً لعبادة مأمون!

رحلَ البابا فرنسيس مُبَكِّتاً بنهج حياته المتواضع حتّى الإمّحاء، ضمائر كل مَن اعتقدوا أنهم "أمراء الكنيسة" "عن حقّ وحقيقة"، ونسوا أنّهم أمراء "ملِكٍ مصلوب"، والعبارة هي للبابا بندكتس السادس عشر، ولطالما ذَكَّر بها البابا فرنسيس، مَن سلكوا سلوك أُمراء الأرض في حياتهم وموتهم!

ذكّر البابا فرنسيس "أمراء الكنيسة"، بأنَّ يسوع ما أطلَقَ عليهم لقب أُمراء، ولا أرادَهُم أُمراء، بل دعاهُم خُدّاماً (يو22: 26)، أُسوةً بِه هو الخادم (يو22: 27)، وأرادهُم خُدّام كنيسته (متى23: 11)، خُدّاماً لا وجهاء ونافذين. خُدّاماً لا سلاطين مُسَلَّطين! وبولس الرسول من بَعده، دعا نفسه ودعاهُم "خُدّام المسيح، ووُكلاءَ على أسرار الله"(1قور4: 1). وباسم ربّ الجنود كان ناثان النبيّ قد نبّههم بأن لا ينسوا بأنهم "مِنَ الْمَرْبَضِ مِنْ وَرَاءِ الْغَنَمِ"(2صم7: 8) أُخِذوا، ليكونوا رؤساء- خدّاماً على شعب الله من دون استحقاقٍ منهم، وأنّ السلطة في الكنيسة هي للخدمة لا للسعي إلى المجد البشري.

حذّر البابا فرنسيس " أمراء الكنيسة" من خطر "​الإكليروس​يّة"، ومن بشاعة أن يظنّوا بأنهم فوق الشّعب؛ أكثر سموّاً ومنزلة ورُقيّاً ورِفعَةَ منه، وأكثر نُبلاً وكرامةً منه، وأكثرَ ثراءً وقُدرة منه، وأكثر قوّة منه ! الإكليروسيّة شرّ، قال لهم، شرٌّ يَسقط " ضحيته الشعب المتواضع والفقير الذي ينتظر الرب". الشعب يُريد أن يُصدّق بأن خُدّامه هم مثاله في القداسة و​التواضع​، وبأنهم رجال الله حقيقةً، يلتمسون وجه الله ومسيحه، ويعملون من أجل قداسة أنفسهم وقداسة شعب الله؛ فالشعب الذي يَرى مَن مِن المفترض بهم أن يكونوا خدّامه، مَخدومين كالأمراء، وبعيدين عنه، وفي موقِعٍ يَسمح لهم بالتسلّط والإستبداد، لا يُمكنه إلاّ أن يطرح السؤال حول الإيمان بشكلٍ عام، وحول إيمانه بشكل خاصّ، وحول ما إذا كان رعاته رعاة حقيقيين أم رعاة بثوب حَمَل وحسب، يستعملون الشّعب مطيّة لأمجادهم! يطلبون الثّمر من الشعب وهُم أنفسهم لا يُثمرون!

عَيّب البابا فرنسيس على "أُمراء الكنيسة"، ممتلكاتهم وأموالهم وسياراتهم وثرائهم وشظف عيشهم، وجوعهم إلى السلطة. ذكَّرهُم بأنّهم أمراء ملِكٍ لَم يسعَ يوماً إلى مالٍ، ولا إلى تكديسه. ولا إلى مَجدٍ، ولا إلى اكتسابه. مَلِكٍ لَم "يَلعب بالمال لَعِب" و"لَم يكن له (حتّى) موضِعٌ يسنِد إليه رأسه"(متى8: 20). ملِك أطعم الجياع من دون أن يكون في جيبه، ولا في حسابه المصرفي فلس واحد، وشفى المرضى من دون أن يُحَصِّل أي شهادة في الطبّ، ودافع عن المظلومين من دون أن يدخل معهد القضاء، وشدّد الضعفاء وهو المجروح والمطعون، وعزّى الحزانى وهو المتألّم، وحمل خطايا البشر وهو البارّ الذي لَم يرتكب خطيئة!

ذكّرَ البابا فرنسيس " أُمراء الكنيسة" بأن الذي يُوزّع على أهل الأرض خُبز السَّماء، لا يجدر به أن يكون جائعاً إلى خُبز الأرض: فَمَن يَعِظ الناس بأن يَعمَلوا "للطعام الباقي للحياة الأبدية" (يو6: 27)، عليه أن يَسعَى أوّلاً إلى هذا الطّعام، فلا يَكنِز له كُنوزاً في الأرض حيث يفسد العثّ والسّوس، بل في السّماء حيث الحياة الأبدية (متى6: 19-20)، ولا يعبد ربّين (متى6: 24)، ولا يَسعى إلى مَجد، ولا يتعايش مع تَرَف!

حَذّر البابا فرنسيس الرّعاة "الوصوليّين" الذين يَصبون بِنَهَم إلى أن يكونوا أمراء في الكنيسة، بأنّهم إن استمرّوا في شراهتهم هذه إلى السّلطة، قد "يتحولون إلى ذئاب" مفترسة من دون أن تكون لهم أنياب، وقتَلَة من دون أن يستعملوا أيّ سلاح. صحيح أن مَن يشتهي "السّلطة" يشتهي أمراً حسناً" (1 طيم 3: 1)، ولكن عندما تُشتهى السّلطة لذاتها، وبدافع حبّ السّلطة والمجد وحسب، لا بدافع الخدمة، كما هي حال الكثيرين من مُشتهي السّلطة اليوم، تتحوّل الطريق إلى السّلطة من طريق إلى المجد السّماوي إلى اداة للسقوط في منطق العالم الذي لطالما رفضه السيد المسيح عندما قال لتلاميذه: "أنتم لستم من هذا العالم..." (يو 15: 19)، ومن ليس من العالم، لا يجدر به أن يتصرّف كما يتصرّف أهل العالم!

ذكَر البابا فرنسيس "أمراء الكنيسة"، بضرورة الشهادة للحقيقة وعيشها، وبضرورة أن يكونوا هُم هُم، وأن تكون كلمتهم نعم نعم، ولا لا؛ فلا يُحابوا الوجوه، ولا يُزوّروا الحقّ، ولا يُخاطبوا الناس بحسب حُكاك آذانهم. حذّرهم من "الانفصام الرّاعوي"، ومن رياء الفريسيين الذين يقولون شيئاً ويفعلون شيئاً آخر!

وأوصى البابا فرنسيس "أمراء الكنيسة" بأن يكونوا للمسيح قلباً وقالباً. وسيكونون كذلك عندما يُصبحون خُدّاماً، لملِكٍ مصلوب؛ ملِكٍ فقير لَم يكُن عنده ما يسنُد إليه رأسه (متى8: 20)، ولم يكن همّه إلاّ فيما هو لأبيه (لو2: 49). ملِكٍ جائعٍ إلى خلاص الإنسان، خادمٍ في المحبّة، قائلٍ وعاملٍ بالحقّ، ومائتٍ من أجل الحقّ، ومنتَصرٍ بالحقّ على الموت ومملكته وحاشيته.

لقد انتصر البابا الراحل فرنسيس على ثقافة الأمراء، بثقافة ​المحبة​ حتى المِلء، والتواضع حتى الإمّحاء، والبساطة حتى الصّميم، والخدمة حتى النَفَس الأخير، وبكّتهم لعلّهم يستيقظون قبل قيام السّاعة!