بالسابقة التاريخية في الشكل والمضمون، وُصِفت الجلسة الحكومية الأخيرة، التي طُرِح على "أجندتها" ملف السلاح، الذي لطالما اعتُبِر من "الخطوط الحمراء"، ولو أنّه جاء "نتيجة" لمسار تصاعديّ يشهده لبنان داخليًا وخارجيًا منذ بداية الحرب على جبهة الجنوب، وذلك في لحظة دقيق وحسّاسة، تشكّل ربما اختبارًا حقيقيًا لموازين القوى في الداخل، ولمدى قدرة الحكومة على مقاربة أكثر الملفات حساسيّة، في ظلّ انقسام عمودي حول جوهر الكيان ووظيفته.

جاءت الجلسة تحت ضغط متعدّد الأوجه: من جهة، ضغوط أميركية وإسرائيلية، دبلوماسية وعسكرية، وصلت إلى ذروته مع تصريح المبعوث الأميركي توم براك، الذي قاله فيه إن "الكلمات لا تكفي"، وإنّ المطلوب "خطوات ملموسة"، ومن جهة ثانية، ضغوط داخلية متزايدة تمارسها قوى سياسية، على رأسها "​القوات اللبنانية​"، التي ذهبت إلى حدّ التلويح باتخاذ إجراءات تصعيدية في حال مماطلة الحكومة بالقرار.

بين هذين الضغطين، عقدت الحكومة جلستها "التاريخية"، التي كُرّس فيها بند السلاح كنقطة نقاش رسمي، للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، فيما كان المشهد داخل القاعة يعكس انقسامًا سياسيًا حادًا، بلغ ذروته مع انسحاب وزيري "الثنائي الشيعي" في الدقائق الأخيرة، اعتراضًا على التصويت على القرار في مجلس الوزراء، بدل التريّث في اتخاذه، وإن لم يصل الأمر إلى حدّ "الانفجار" الذي كان الكثيرون يخشون منه.

إزاء ذلك، تُطرَح العديد من علامات الاستفهام عن "سيناريوهات التصعيد" ما بعد ​جلسة الحكومة​ الأخيرة، فكيف يمكن أن يتلقّف "​حزب الله​" مقرّراتها، وقد أظهر في ردود الفعل الأولية، أنه لا يعتبر نفسه معنيًا بها، فيما قال بعض نوابه إنّ تسليم السلاح "مجرّد وهم"؟ وهل يتصاعد الاشتباك، فيفجّر الحكومة، وربما ينتقل إلى الشارع على وقع الاحتقان السياسي، وسط مخاوف من أن يصل إلى حدّ وضع الجيش في مواجهة الحزب؟!.

بالنسبة إلى العارفين، فإنّ ما جرى لا يُقاس فقط بنتائج الجلسة نفسها، بل بالتموضع السياسي الذي سبقها، وتكرّس خلالها، إذ بدا واضحًا أنّ البلاد باتت أمام انقسام عمودي غير مسبوق منذ 2005، بين من يعتبر أنّ اللحظة مواتية لإعادة تعريف مفهوم "السيادة"، وبين من يرى أن الأولوية في هذه المرحلة يجب أن تكون لردع العدوان الإسرائيلي، لا فتح ملفات خلافية تعمّق الانقسام الداخلي وتضعف الجبهة الداخلية.

على وقع الجلسة، اختار الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، أن يلقي خطابًا سياسيًا، لم يكن توقيته تفصيلاً عرضيًا، بل حمل دلالات لا يمكن تفسيرها خارج سياق الحدث. فالكلمة التي تزامنت بدقة مع انعقاد الجلسة، أعادت التأكيد على ما يسميه الحزب "ثوابته"، وبدت أشبه برسالة مزدوجة: أولًا للداخل، مفادها أن السلاح غير مطروح للنقاش في هذه المرحلة، وثانيًا للحكومة تحديدًا، بأنها لا تملك حق اتخاذ قرار بهذا الحجم من دون توافق وطني جامع.

في كلمته، شدّد قاسم على أن "النقاش الأمني يجب أن ينطلق من استراتيجية وطنية شاملة، لا من حسابات ظرفية أو خارجية"، وأنّ المقاومة "ليست مخالفة للطائف، بل جزء من روحه". وهو كلام لا يحمل فقط مضمونًا أيديولوجيًا أو سياسيًا، بل ينطوي على موقف حازم: حزب الله لا يعتبر نفسه معنيًا بأيّ قرار حكومي لا يحظى بإجماع، خصوصًا حين يتصل مباشرة بسلاحه ووظيفته القتالية، وقد أوضح ذلك بقوله إنّ المقاومة جزء من الطائف.

ولعلّ ما يعزّز هذا الانطباع، هو ما تسرب من أوساط الحزب بعد الجلسة، والتي أبدت انزعاجًا شديدًا ممّا وصفته بانصياع الحكومة للضغوط الخارجية، والاستعجال في اتخاذ قرار بسحب السلاح، من دون أيّ ضمانات فعلية أو حقيقية بوقف العدوان بالدرجة الأولى. واعتبرت هذه الأوساط أنّ الحكومة إذا كانت تريد تطبيق البيان الوزاري الذي ينصّ على حصر السلاح بيد الدولة، فالأوْلى بها أن تبدأ من ردع العدوان، وهو ما لم يحصل لغاية تاريخه.

أمام هذا المشهد المعقّد، تُطرَح علامات استفهام كثيرة حول كيفية تعامل حزب الله مع مخرجات الجلسة، لا سيما أن ردّه الأوّلي اقتصر على انسحاب محدود لوزرائه، دون أن ينسف الجلسة أو يُفجّر الحكومة، وهو ما فُسّر على أنه تريث تكتيكي، أو محاولة لاحتواء التصعيد دون التراجع عن الموقف المبدئي، إلا أنه يصطدم على ما يبدو بحزمٍ يبديه الفريق الآخر، الذي يبدو كمن "لا حول ولا قوة له" في مواجهة الضغوط التي يتعرّض لها.

في المقابل، يرى كثيرون أنّ هذا "الهدوء"، إن جاز التعبير، لا يعني التسليم بما صدر. فالحزب يحتفظ بحق الرد، وقد يختار توقيتًا أكثر ملاءمة سياسيًا أو ميدانيًا، خاصةً في حال أصرّت الحكومة على السير بتنفيذ القرار، علمًا أنّ النقاش في التفاصيل حيث تكمن الشياطين عادةً، لم ينتهِ بعد. وهنا، يعود هاجس "الشارع" إلى الواجهة، وسط تقارير عن استعدادات وتحضيرات ميدانية، ولو بقيت محصورة في رسائل ضغط حتى الآن.

ويزداد المشهد تعقيدًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار خشية بعض الأوساط من محاولة وضع ​الجيش اللبناني​ في موقع تصادمي مع الحزب، بعد أن كُلّف بإعداد خطة لسحب السلاح المنتشر، بل حُدّدت له "مهلة" لإنجاز العملية، لا تتجاوز نهاية العام الحالي، بما يترجم الخطة الأميركية المُعلَنة، وهو ما قد يضع المؤسسة العسكرية في وضع حرج، بين تنفيذ قرار حكومي، وتفادي انفجار ميداني قد تكون له تداعيات غير محسوبة.

عمومًا، لا يبدو أنّ أيّ طرف قادر على تحقيق انتصار حاسم في هذا الملف في الوقت الراهن في الحسابات الواقعية، بعيدًا عن البروباغندا والبراغماتية، فالقوى الداعية لسحب السلاح استطاعت فرض النقاش داخل المؤسسات، لكنّها لم تضمن بعد تنفيذًا فعليًا، في حين أنّ حزب الله لا يزال يمسك بخيوط القوة داخل المعادلة، وإن شعر للمرة الأولى منذ سنوات أنّ هامش المناورة بدأ يضيق.

ولأنّ لا طرف يملك رفاهية المغامرة الآن، في ظلّ التهديدات الإسرائيلية وتفاقم ​الأزمة الاقتصادية​ والاجتماعية، يبدو أنّ سيناريو "التبريد المؤقت" هو الخيار المرحلي، بانتظار أن تنضج الظروف، أو ربما الضغوط. وحتى ذلك الحين، سيكون حزب الله في موقع المترقّب، يراقب ويحضّر، لكنه أيضًا يُعيد بناء تموضعه داخل الدولة والمؤسسات، مع قناعة راسخة بأنّ ما بعد هذه الجلسة لن يكون كما قبلها، وأنّ المعركة على "سلاحه" دخلت منعطفًا جديدًا، لا يمكن تجاهله أو التقليل من شأنه.