لطالما نظر اللبنانيون بعيون التقدير لأي عمل أو دور عربي إيجابي، إذا كان المقصود فيه بذل مساعٍ حميدة لإصلاح ذات البين بين أبناء الوطن الواحد، أو صرف قليل مما أنعم الله به على الأشقّاء الأغنياء، لحل بعض مشكلات إخوانهم وجيرانهم الفقراء.

هذا التلاقي الإيجابي حدث في محطات عدة، عبّر خلالها اللبنانيون عن وفائهم لمن يمدّ يد الخير لهم، وفي هذا المجال بات شعار "شكرا قطر" والاحتفاء بها مضرباً للمثل، بل وللتهكّم من البعض.

لكن من الطبيعي أن تنعكس ردة الفعل عندما يكون الفعل معكوساً، ومضرّاً بكل ما له صلة برابطة الأخوّة والجوار، التي تجمع العرب في بلدانهم المتعددة، على تنوع انتماءاتهم، وهذا ما بات ظاهراً ومحسوساً من قبل اللبنانيين، الذين أصبحوا يعانون هذه الأيام من "التدخّل الخليجي" السلبي في شؤونهم، بهدف استخدام لبنان مقرّاً وممرّاً لأعمال التخريب الجارية في سورية، برعاية وتوجيه الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الأطلسيين، وفي مقدمهم تركيا - الأردوغانية، وتسايرهم فيها بحماس بعض دول الخليج النفطية.

وليس جديداً ولا سراً أن دول النفط العربية الخليجية عموماً حسمت مواقفها بالتخلي عن تبعات القضية الفلسطينية، و"جنحت" إلى السلم مع العدو الصهيوني، مثل جنوح أنور السادات تماماً، وهذا الجنوح جعل منها مقرّاً للتحريض ضد أي عمل مقاوم ضد الكيان "الإسرائيلي"، لأنه يحرجها مع حليفها الأميركي.

لذلك، تبدو الساحة اللبنانية هذه الأيام ضحية صراع سعودي - قطري يتزاحم ويخوض "حرب مزايدات" في التطرف والتحريض، وفي افتعال التوترات التي تنذر بفتن أهلية، لأن هاتين الدولتين العربيتين بنتا علاقاتهما في الأساس على قاعدة الصراع بينهما، لأسباب عديدة، أبرزها الخلاف بينهما على الأراضي البرية القطرية التي اجتاحتها السعودية وضمتها إليها، جاعلة من قطر مجرد جزيرة، إضافة إلى الصراع التقليدي بين العائلات الحاكمة التي تتوزع السيطرة على الأراضي العربية المشكّلة لدول تلك العائلات، وجاء التحالف المفروض أميركياً بينها ليجعل من تحركها في لبنان فخاً يهدد أمن اللبنانيين وأمانهم، خصوصاً أن كلاً من الدولتين تتبنى طرفاً متطرّفاً في عملها السياسي المغطَّى برداء الإسلام، حيث تتبنى قطر "التنظيم الدولي للإخوان"، الذي عقد صفقة مع الأميركيين للاستيلاء على السلطات في أكثر من بلد عربي، من ضمن مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الأميركي، في حين تتبنى السعودية وترعى الحالة "الوهابية السلفية" التكفيرية، التي تحاول أن تحصل لنفسها على حصة من حطام الأنظمة والدول العربية، التي تعمّها الفوضى وتجتاحها الحركات المتطرفة المدعومة بالسلاح الأميركي والغربي، وبالمال النفطي العربي.

وليس أدل على الانعكاسات السلبية لهذا التزاحم القطري - السعودي في خدمة المخطط الأميركي من الحملة التي استهدفت وزير الخارجية اللبناني عدنان منصور، عندما سجّل موقفاً في الجامعة العربية، ينأى فيه بلبنان عن الانخراط في قرار الجامعة العربية إرسال السلاح إلى العصابات التي تدمّر سورية وتقتل شعبها.

كذلك لا يمكن تجاهل المزايدات والتسابق في الدعوة إلى الفتنة بين أحمد الأسير المموَّل قطرياً، وذلك المعمم "الوهابي" الآتي من طرابلس، الذي يجول في المناطق داعياً إلى الفتنة على طريقة الأسير.

كما أن "تيار المستقبل" المحسوب على الحالة السعودية - الوهابية أدلى بدلوه في هذا الصراع، عندما أوفد نائبه البيروتي نهاد المشنوق إلى صيدا، ليعلن تبرّأءه من تحركات "شيخ عبرا"، بعد أن استفاد منها "المستقبل"، واستثمرها طوال أشهر عدة في وجه خصومه السياسيين، وكان لافتاً أن النائب المشنوق أشاد في صيدا بكل من السعودية والإمارات والبحرين، وأغفل قطر، علماً أن "تيار المستقبل" لو كان صادقاً في البراءة من تطرّف الأسير، لكان الأحرى به أن يكلّف نائبيه الصيداويين يعلنوا هذا الموقف، لكن بدا أن إعلان التمايز عن قطر كان الهدف، وليس التبرؤ من دعوات الفتنة.

كذلك تبدو المعاناة اللبنانية في أخطر حالاتها في ما تعانيه مدينة طرابلس من حملات تحريض طائفي وحقن مذهبي، ومن انقسام بين المجموعات المسلحة الموجودة فيها، والتي تتحرك بتمويل وتسليح خليجييْن، حتى أن الحديث بات شائعاً ومعلَناً عن دور لجهات سياسية رسمية لبنانية في رعاية وتمويل حالات "سلفية" مسلّحة، تناصب العداء لحالات "سلفية" أخرى يدعمها "تيار المستقبل"، مما ينذر بأخطار تهدد عاصمة الشمال اللبناني وأهلها.

والسؤال: هل سينجح لبنان في النأي بنفسه عن الانخراط في الحرب العدوانية ضد سورية؟ وإلى متى، ما دامت هناك جهات ودول تعمل على دفعه دفعاً للدخول في هذا الحلف الشيطاني الموجَّه أميركياً وصهيونياً؟