دخلت “أزمة” سوريا سنتها الثالثة بثلاثة أحداث متزامنة نقلتها، أو كادت، إلى حمأة حرب إقليمية .

الحدث الأول اختيار غسان هيتو، الكردي الدمشقي، الأمريكي الجنسية، الذي لم يزر وطنه الأصلي منذ 25 عاماً، رئيساً لحكومة سورية مؤقتة يُراد لها أن تدير الأراضي التي “حررتها الثورة”، وتعمل انطلاقاً منها .

جرى تقديم هيتو إلى العالم على أنه “رجل التوافق” داخل “الائتلاف الوطني السوري”، وأنه يحظى باحترام الإسلاميين وقبول الليبراليين . غير أن وقائع جلسة الاقتراع في اسطنبول كشفت أن “رجل التوافق” لم يفز بإجماع أعضاء “الائتلاف” ال ،72 إذ إن الأعضاء المعارضين لفكرة الحكومة المؤقتة غادروا قاعة الاجتماع عند بدء التصويت، فكان أن نال هيتو 35 صوتاً من أصل 49 شاركوا في الاقتراع .

المقاطعون أعلنوا أن رفضهم لهيتو سببه أنه “مفروض من جماعة الإخوان المسلمين” . القيادي كمال اللبواني قال: “لا نريد أن يتكرر في سوريا ما حصل في مصر . لقد حوّلوا الثورة عن مسارها” .

سواء كانت ثورة أو لم تكن، فإن هيتو يعتبرها كذلك، إذ سارع للتوّ إلى كشف العناوين الرئيسة لبرنامج حكومته . قال إن “لا حوار مع النظام الأسدي . ستعمل الحكومة كل ما في وسعها لبسط سيطرة نواة الدولة السورية الجديدة في المناطق الحرة . الأولوية تبقى لتأمين الدعم العسكري والمالي للجيش الحر والثوار، ندعو المجتمع الدولي إلى السماح للحكومة الجديدة بشغل مقعد سوريا في الأمم المتحدة والجامعة العربية والمنظمات الإقليمية والدولية” .

ثلاثة أمور يمكن استشفافها من تصريحات هيتو . الأول، رفضه الحوار مع نظام الأسد، خلافاً لموقف رئيس “الائتلاف” معاذ الخطيب . الثاني، تصميمه على متابعة الحرب ومطالبته الدول الحليفة بالدعم السياسي والعسكري لإسقاط النظام . الثالث، دعوته إلى إحلال حكومته في مقعد سوريا في الأمم المتحدة وكل المنظمات الإقليمية والدولية ما يمهد، في حال حصوله، إلى تقسيم الأراضي السورية بين سيادة “دولتين” أو أكثر .

موقف الخطيب بدا نقيضاً لهيتو، فقد هاجم الخطيب الدول المتورطة في حرب بلاده قائلاً: “هناك معركة كسر عظم إقليمية ودولية في بلادنا . اخرجوا من بلادنا جميعاً . نحن ضد كل جماعة وفكر وسلاح يريد أن يدمر البنية التحتية لسوريا، وضد كل فكر تكفيري وإرهابي . نحن مجتمع منفتح، ولن نسمح بأن يكون ذلك حجة لتدمير سوريا كما كانت أسلحة الدمار الشامل حجة لتدمير العراق” .

الحدث الثاني إدخالُ الأسلحة الكيميائية في “معادلة” الحرب الدائرة في سوريا . فقد قُتل 31 شخصاً، بينهم 11 جندياً، وأصيب العشرات من الأطفال والنساء إثر إطلاق صاروخ يحمل مواد كيميائية على منطقة خان العسل جنوبي مدينة حلب الخاضعة لسيطرة الجيش السوري . المعارضة المسلحة نفت مسؤوليتها، غير أن أوساطاً دبلوماسية عربية ودولية فسرت الغاية من الضربة الكيميائية بأنها محاولة من المعارضة للحصول على مكاسب سريعة، في إطار التجاذبات الدولية الناشطة في سوريا وحولها .

أوساط النظام أعطت تفسيراً إضافياً . قالت إن الغاية من استخدام سلاح كيميائي هي إحداث تغيير سريع في موازين القوى، وبث الرعب في نفوس مؤيدي النظام، ولاسيما بعد التقدم الذي أحرزه الجيش السوري في محيط دمشق وحمص وحلب . أوساط دبلوماسية عربية في بيروت أعادت إلى الأذهان تصريح وزير خارجية فرنسا لوران فابيوس، حول اعتزام باريس ولندن تزويد المعارضة السورية بأسلحة نوعية، بغية “إعادة التوازن” إلى الميدان .

الحدث الثالث قيامُ سلاح الجو السوري بقصف منطقة خالية من السكان على الحدود اللبنانية السورية . ثار جدل محموم حول موقع القصف . ناطق سوري رسمي قال إن القصف تركّز على موقع داخل الأراضي السورية محاذٍ للحدود مع لبنان . قيادات المعارضة اللبنانية أصرّت على أن القصف تمّ داخل الأراضي اللبنانية، وطالبت بتوجيه مذكرة احتجاج قوية إلى دمشق . الرئيس ميشال سليمان تبنّى، بادىء الأمر، موقف المعارضة ثم ليّن موقفه بعد بيان النفي السوري .

ثمة إجماعٌ على أن الغاية من الضربة الجوية السورية هو تحذير حكومة نجيب ميقاتي من أن دمشق جادة في تهديدها بضرب تجمعات المسلحين السوريين الناشطين في المناطق اللبنانية الحدودية ما لم يسارع الجيش اللبناني إلى ردعهم . قائد الجيش العماد جان قهوجي حمّل السياسيين اللبنانيين مسؤولية تدهور الوضع على الحدود اللبنانية السورية . خاطبهم قائلاً: “حصّنوا الداخل حتى يتفرغ الجيش للحدود . أستغربُ كيف أن هناك من يطالب الجيش بتحمّل مسؤولياته الحدودية، بينما يسهم في خطابه بجعل الجيش يُنهك بين الداخل والحدود” .

لعل أخطر من الغارة الجوية السورية السؤالُ عمّا إذا كانت دمشق تخطط لغارات أخرى على تجمعات المسلحين السوريين الناشطين في مناطق أخرى من لبنان والأردن . ذلك أن ثمة وجوداً سورياً مسلحاً في شمال لبنان في حال اشتباك دائم مع القوات السورية النظامية في ريف مدينة تلكلخ ومحيطها . ثم إن هناك مجاميع من المقاتلين السوريين قالت صحف بريطانية وأمريكية إن ضباطاً أمريكيين يقومون بتدريبهم على استخدام أسلحة نوعية مضادة للمدرعات وللطائرات داخل الأردن . هل سيقوم سلاح الجو السوري بقصفهم؟

من الواضح أن “أزمة” سوريا تحوّلت حرباً إقليمية . إذا ثبت أن ميليشيات المعارضة السورية هي من قصف خان العسل بصاروخ يحمل موادّ كيميائية، فإن أصابع الاتهام سوف تشير إلى تركيا، لأنه لا قدرة للميليشيات المحلية على صنع أسلحة كيميائية .

فهل يؤلف مجلس الأمن لجنة أممية للتحقيق؟

غير أن الأمر الأخطر هو ما تعتزم الولايات المتحدة فعله لمنع استشراء استعمال الأسلحة الكيميائية . القائد الأعلى لقوات حلف شمال الأطلسي في أوروبا الأميرال جيمس ستافريديس قال خلال جلسة استماع في الكونغرس الأمريكي إن الحلف يضع خططاً طارئة من أجل تدخل عسكري في سوريا، وإن القوات الأمريكية قد تكون جاهزة للمشاركة إذا جرى اتخاذ قرار بالتدخل في مجلس الأمن . أضاف أن الخطط تتضمن فرض حظر طيران، واستهداف الدفاعات الجوية، وتقديم أسلحة فتاكة إلى المعارضة السورية، وفرض حظر تسليح للقوات السورية .

ليس ما يشير، في الوقت الحاضر، إلى أن مجلس الأمن سيجيز لأمريكا أو لغيرها التدخل عسكرياً في سوريا . لكن، ماذا لو قررت إدارة باراك أوباما أن تتدخل عسكرياً بمعزل عن مجلس الأمن، محاكيةً في ذلك ما فعلته إدارة جورج بوش في العراق قبل عشر سنوات؟

لنرَ ما ستنتهي إليه جولة أوباما في دول المنطقة .