تحتل مسألة التنوع الثقافي حيزاً أساسياً في التقكير الروسي الإستراتيجي ارتباطاً بتركيبة البنية الداخلية الروسية وما تعتبره موسكو مخاطر السياسات الغربية في تعزيز إشكالية الهوية في العالم الإسلامي.

تحتضن روسيا تاريخياً تنوعاً ثقافياً وقومياً ودينياً كبيراً، وعلى الرغم من أنَّ نخبها السياسية والفكرية تأثرت بالغرب وتجربته الحضارية والتحديثية، فإنَّ فكرة خصوصية الهوية الروسية المبنية على عناصر "غربية" و"شرقية" (أوراسية) على السواء بقيت هي الأقوى من الإتجاهات "المتغربِنة" على مرِّ القرون. هذه الفكرة تجد اليوم، لا سيما بعد سيادة الإتجاه الغربي الليبرالي في عهد بوريس يلتسين، صدىً كبيراً في أروقة الكرملين ومراكز القرار الروسية التي باتت مصطلحات ومفاهيم "التنوع الثقافي" و"التنوع من ضمن الوحدة" و"إدارة التنوع" تتردد على لسان أبرز رموزها، وتنبِّه من المخاطر التي يحملها النهج الغربي على المجتمع المتنوع الروسي، نظراً الى الموقع الرئيس الذي تحتله هذه المسألة في استراتيجية روسيا في العالم ومحيطها والمنطقة العربية.

المكون الإسلامي

القلق الروسي لا ينبع من الهوية الإسلامية في حد ذاتها، فهي تاريخية في روسيا قبل تشكلها الأمبراطوري منذ قرون عديدة، وبدأ تكريسها مع "مجلس أورفا الديني وفق القانون المحمدي" لإدارة شؤون المسلمين الدينية في العام 1788 على يد كاترينا الثانية. وعلى الرغم من فترات التوتر، فإن التجربة التعايشية للأمبراطورية الروسية مع الإسلام اضفت على "الإسلام الروسي" خصائص نابعة من احتكاكه بالمكون الروسي السلافي الأرثوذكسي، وخاصةً من مركزية إدارة الدولة أو الأمبراطورية الروسية لهذا الواقع. وحتى مع ارتفاع حدةِ المخاوف أو "الهاجس الإسلامي" في روسيا في أعوام التسعينات بسبب الحرب على الشيشان والعمليات الإنتحارية التي استهدفت مدناً روسية، فإنَّ هذه المخاوف وبحسب مراقبة مراكز أبحاث أميركية وروسية، نبعتْ من منطلقات إثنية وقومية تجاه المجتمعات الإسلامية في القوقاز وليس من مقاربة شاملة لكل المجموعات الإسلامية الروسية. لكن هذه التجربة والنظرة الروسية إلى هذا الإسلام بقيت محكومة بالرغبة ببقائه "تقليدياً" و"معتدلاً" كما كان تقليدياً (سيادة المذهب الحنفي والطرق الصوفية) وتحت سقف عدم خروج الحالات الإسلامية عن سقف الوحدة الجغرافية للإتحاد الروسي، واستطراداً التخوف من انتشار الإتجاهات المتطرفة والتكفيرية ومحاربتها بشدة.

مخاطر السياسات الغربية

غير أن الإتجاه الأكثر خطورة على التنوع الثقافي وعلى الإستقرار العالمي في نظر روسيا، يبقى في الإندفاع الغربي والأميركي وراء تعزيز "صدام الحضارات" من خلال الخطوات العسكرية الأحادية في العالم الإسلامي وخاصة اجتياح العراق ومحاولة فرض نموذج معين للديموقراطية، مع ما أدى إليه ذلك في نظر صنّاع القرار الروس من فوضى وتنامٍ للراديكالية الإسلامية. من هنا تبدو الدعوة الروسية إلى إرساء نظام عالمي جديد متعدد القطب والشراكة الحقيقية في مجلس الأمن، ذات بعد مزدوج يشمل النظرة إلى كيفية تكريس الدور الروسي العالمي، وأيضاً محاولة الحد مما يُعتبر في نظر الكرملين وغالبية النخب الروسية على اختلاف مشاربها القومية والأوراسية وحتى الليبرالية، "تهوراً" غربياً واستعجالاً في اللجوء إلى الخيار العسكري، وغالباً من خارج مؤسسات الشرعية الدولية. الإشارة والكلمات بالغة الدلالة في خطاب لافروف الأخير أمام "مجلس السياسة الخارجية والدفاعية"، فهو يعلن رفض "السلوكات المسيحانية الخلاصية" التي تؤدي إلى تداعيات سيئة عالمياً، في مقابل التشديد على "الشراكة بين الحضارات" و"القواسم الروحية والأخلاقية المشتركة بين الديانات العالمية الأساسية"، ومخصصاً فسحة رئيسية للجوار الأوراسي في العلاقات الروسية الخارجية.

لا غرابة إذاً في أن نرى السياسة الروسية حذِرة لا بل "مقاوِمة" للسياسات الغربية تجاه الوضع الراهن في المنطقة العربية، وتجاه الوضع السوري خاصةً. وإذا كانت دروس الفوضى العراقية لا تزال حية في أذهان المسؤولين الروس، يمكن عندها فهم جانب أساسي من تشدد موسكو في موقفها من الأزمة السورية، لا سيما إذا تحولت نحو سيناريو من "الأفغنة" الذي يجعل "سورياستان" منطلقاً لإعادة تفكيك مجتمعات المشرق العربي الممزقة أصلاً، ويطلِق شرارات من هذا الحريق إلى التخوم الروسية الواقفة على صفيح التنوع الديني والثقافي.