كعادته في كل صباح، استيقظ المواطن موريس بو خليل وخرج إلى الباحة الموجودة أمام منزله ليبدأ نهاراً جديداً... لكنه فوجئ بوجود شخصين غريبين في "الحيّ" كانا يضعان علامات ونقاط، فسارع ليسألهما عما يقومان به، فأجاباه: "ما تعتل هم يا عمّ، هيدا كرمال ​الأوتستراد العربي​، مش رح يمرق على إيامك".

ما زال العم موريس يتذكر جيداً أن فريقاً آخر كان قد أتى عام 1994 لوضع النقاط أيضاً، ويقول: "كل فترة تأتي مجموعة جديدة، وكل مرّة يقولون لنا أمرا مختلفا... لم نعد نعرف شيئاً". ويشرح أن هذين الشخصين طلبا منه "الا يحمل أي هم لأنه في حال إخلاء المنزل فسيتم دفع التعويض المناسب، وليس أقل من المتوقع".

يعيش العم موريس الآن في حالة من الإنتظار، ولا يعرف ما الذي سيحدث تحديداً بمنزله الذي يقطنه وعائلته منذ أعوام عدّة. وهذا الإنتظار عينه تعيشه مئات العائلات التي تسكن من الحدث وصولاً إلى بعلشميه حيث من المتوقع أن يمرّ الأوتستراد العربي الذي صمّم منذ العام 1974 ولم ينفذ حتى يومنا هذا في قضاءي عاليه وبعبدا.

توديع آخر مساحات خضراء قرب بيروت... قريباً؟

وصلت أصداء وضع النقاط في بعبدا إلى آذان ناشطين بيئيين، فتحرّكوا فورا لحماية ما تبقى من مساحات خضراء قرب العاصمة بيروت، وأنشأوا عريضة لحماية ما يعرف بـ"غابة خندق الرهبان" التي من المتوقع أن يقضي الأوتستراد على جزء كبير منها. سريعا، انضم المئات اليها علما أنّ وسائل التواصل الإجتماعي ما زالت تتناقلها سعياً لضم المزيد من الأصوات.

وفي هذا الإطار، يوضح رئيس جمعية "الأرض-لبنان" ​بول أبي راشد​، وهي الجمعية التي تعنى بحماية هذه الغابة من الحرائق وبالإهتمام بها على الأصعدة كافة، أن "مناطق خضراء بكاملها مهددة بسبب هذا الأوتوستراد المزمع إنشاؤه، وقد "تطير" بسببه آخر غابة قريبة من بيروت"، مشيراً إلى أنها تشكل "باقة من التنوع البيولوجي، وقد أذهلت الباحثين، ففيها 42.5 نوع نبتة في الهكتار الواحد، بينما محمية أرز الشوف فيها 0.03 نوع نبتة بالهكتار، هذا بالإضافة إلى أهمية وجودها في هذه المنطقة كمتنفس لكل أهالي المدينة والجوار، واستخدامها من قبل المدارس كوسيلة للتوعية البيئية ولتعليم الأطفال على احترام الطبيعة، إلى جانب النشاطات المستمرة التي تقام هناك". ويتخوف أبي راشد من وجود صفقة معينة خلف بزوغ قضية الأوتستراد العربي من جديد بعد أن كان قد خطط له في سبعينيات القرن الماضي، مشدداً على أن "لا حاجة لنا اليوم لأوتوستراد جديد في ظل تطوير طريق الشام وتحديثها".

هذا ما ينفيه بشدّة رئيس دائرة النقل والطرقات في مجلس الإنماء والإعمار ​غسان خيرالله​ لـ"النشرة"، مؤكداً أن "لا بديل عن الأوتستراد العربي، وتطوير طريق الشام ليس سوى حلاً موقتاً متوسط الأمد لأن مشكلة السير لم تكن تحتمل الإنتظار حتى تنفيذ الأوتستراد العربي". لذلك، يلفت خيرالله إل أنه "تم توسيع الطريق واستحداث محولات لإعطاء المجال للدولة لتأمين الإستملاكات وكل ما يلزم لتنفيذ الأوتستراد العربي الذي يعتبر الحل على المدى الطويل".

وعن ضرب هذا الأوتستراد للمساحات الخضراء الموجودة في بعبدا وغيرها من المناطق، يقول خيرالله: "بلدنا معروف بلبنان الأخضر، ونحن سنبذل كلّ جهدنا لكي لا نضرب مساحات كبيرة من الأحراش التي لا بد لنا من المرور بها"، ويوضح أنه "مع التقنيات الحديثة، أصبح بإمكاننا أن نأخذ مساحة 40 متراً من الحرش بدلاً من 100 متر".

الأوتستراد العربي يربط بيروت بالدول العربية

تجدر الإشارة إلى أن هذا الأوتستراد متصل بمشروع آخر وهو الأوتستراد الدائري لمدينة بيروت، ومن المقرر أن يصل العاصمة اللبنانية بالدول العربية مما يساهم في تنمية الإقتصاد، كما يُشاع.

ويبدأ تخطيط هذا الأوتستراد من الحدث مروراً ببعبدا والجمهور والكحالة وبسوس وعاليه وعين الجديدة وبعلشميه وبحمدون وصوفر والمديرج وضهر البيدر والمريجات وشتورة وتعنايل حتى المصنع، وفيه محولات ومداخل ومخارج.

ويشرح خيرالله أن "الأولوية كانت لمنطقة صوفر لأنها منطقة كانت تشهد اختناقاً في السير"، ويقول: "لذلك نفذنا القسم الأول من صوفر إلى المديرج، وقد بدأ ذلك مع مجلس تنفيذ المشاريع الإنشائية، وعند دمج المجالس، أكمل تنفيذه مجلس الإنماء والإعمار. أما القسم الثاني من المديرج إلى تعنايل، فتم تلزيمه بتمويل مشترك بين الصندوق السعودي والـOPEC. وبالنسبة إلى القسم الأخير، من تعنايل إلى المصنع، فتم تلزيمه بتمويل من البنك الأوروبي بانتظار بدء التنفيذ".

إذاً، من صوفر حتى المصنع يمكن اعتبار أن التنفيذ قد بدأ رغم وجود نقص بالإستملاكات والحاجة إلى تمويل إضافي، لكن خيرالله يتوقع إنهاء العمل على إنشاء الأوتستراد بين هاتين النقطتين بغضون 4 أو 5 سنوات.

أما الجزء الممتد من الحدث باتجاه صوفر فلن ينفّذ في القريب العاجل وفق معلومات حصلت عليها "النشرة" إذ إنه، بالإضافة إلى كلفته المرتفعة بسبب العوامل الطبيعية الصعبة، فإنه محلّ مفاوضات وأخذ وردّ بين مجلس الإنماء والإعمار من جهة والبلديات التي يمرّ بها من جهة أخرى، ولا سيما ​بلدية الكحالة​ التي تعتبر الأكثر تضرراً من المشروع بالشكل التي عرض فيه عليها عام 1974. ووقفت بوجهه منذ ذلك الحين لأنه يقسّمها إلى جزءين ويؤدي إلى تضرر 390 منزلاً.

وبسبب استحالة توسيع الطريق المؤدية من الجمهور إلى بعلشميه بسبب حدة المنعطفات، وبالتالي، بسبب عدم القدرة على إيجاد حل على المدى المتوسط لأزمة الطريق في تلك المنطقة، لم يتمكن القيّمون على توسيع طريق الشام من استكمال المشروع إلى نقطة أبعد من الجمهور، وكان لا بد لهم من الرجوع إلى مخطط الأوتستراد العربي.

مشروع الأوتستراد العربي يهجّر أبناء الكحالة

... ولهذا الأوتستراد مع بلدة الكحالة تحديداً "قصة طويلة" وفق ما يصفها رئيس البلدية ​جورج بجاني​، الذي يعتبر أنها "تتناقل من جيل إلى جيل".

ويشرح أنه عند صدور مرسوم إنشاء هذا الأوتوستراد عام 1974 شعر أبناء الكحالة بوجود إرادة بإلغاء منطقتهم عن خارطة لبنان "لأنه كان يمرّ بها من الذنب إلى الرأس، وهي التي يشبه شكلها شكل السمكة"، ويقول: "كان يصل عرضه 80 متراً، وكان من المقرر أن يهجّر 390 عائلة على الأقل، فانتفضنا ضده بشكل قوي وقاسٍ وأتت الحرب اللبنانية فجمدت الأمور كلها". ويتابع: "الكحالة أكبر قلم انتخابي ماروني في قضاء عاليه، ومن أصغر البلدات مساحة، فكل شبر أرض نخسره يؤذينا على صعد كثيرة. وعبثاً حاولنا أن نخرج المشروع من الكحالة رغم تقديم اقتراحات عدّة... فقد تعثر تقنياً مروره في منطقة أخرى".

ويتابع بجاني قائلا: "لأننا لا يمكننا اخراجه من الكحالة سعينا إلى تخفيض عدد المنازل التي يمرّ عبرها من 390 إلى 57 منزلاً عام 2001، وعندما أدخلنا إقتراحاتنا تمكنا من تخفيضها إلى 5 أو 6 منازل وهو الحد الأدنى الذي يمكننا أن نقبل به إذا لم يوجد حل آخر". ويضيف: "هذا أدى إلى زيادة بالكلفة، واليوم تنظر الدولة، وتحديداً مجلس الإنمار والإعمار، إلى زيادة الكلفة لا إلى البشر. وكان سؤالنا له هو التالي: هل المال أهم أو الناس؟"

لكن رئيس دائرة النقل والطرقات في مجلس الإنماء والإعمار غسان خيرالله يرفض اتهام المجلس بأنه يعلق أهمية فقط على الناحية المادية، موضحاً أن "المفاوضات جارية مع البلديات"، ويقول: "نحن نستمع إلى مطالبهم ونسعى لتنفيذها".

وفي هذا الإطار، يؤكد رئيس بلدية الكحالة أن ما يسميها "المعركة" مستمرة مع الإنماء والإعمار للقبول باقتراحات البلدية، ويقول: "هم لا يرون أمام أعينهم إلا مسألة التمويل والمال، وسنبقى نرفض مرور هذا الأوتستراد علماً أنه يحل مشكلة كبيرة من مشكلة السير على الطريق الدولية". ويضيف: "نحن مع التطور والتواصل ولسنا ضدهما بتاتاً، ولكن لا شيء يتم غصباً عن المواطن. فالإنماء والإعمار يضع أمام عينيه الكلفة الزائدة، وينسى ويتناسى أنه لو نفذ المشروع في الـ1975 كان كلفه 1 على 100 من كلفته اليوم، إذ إنّ التضخم المالي وارتفاع أسعار العقارات، والمواد والتلزيم... هي زيادة طبيعية".

وفيما يرى خيرالله أن المشروع مهم جداً بالنسبة للبلديات كلها، ويجب السعي لتنفيذه من قبل الجميع و"لا يمكن الإستغناء عنه بل يجب ايجاد تقنيات حديثة لتخفيف الضرر الذي يسببه"، يعتبر بجاني أن مشروع الأوتستراد العربي "جمّد النمو العمراني وما زال يسبب بتهجير أبنائنا طبيعيا دون قوة السلاح بسبب العلامات الموضوعة على المنازل التي تمنع المالكين من القيام بأي شيء، وبالتالي فإن ضرره الإجتماعي والإنساني والعائلي كبير جداً".

ما زالت مسألة الأوتستراد العربي إذاً عالقة اليوم، خصوصاً في الشق المؤدي من الحدث إلى صوفر، بسبب الصراع بين الحاجة الواقعية إلى طرقات حديثة ومتطورة تتماشى مع عصرنا، وبين أهمية الحفاظ على البيئة من جهة، وعلى هوية البلدات اللبنانية من جهة أخرى. وفي أي حال، فإن القيمين على هذا المشروع لا يتوقعون إنجاز هذا الشقّ قبل 10 سنوات... ولكنهم يؤكدون على تنفيذه لا محالة مهما طال الأمر.

ووسط هذه الضبابية التي تحيط بتاريخ البدء بتنفيذ هذا الجزء من الأوتستراد، يبقى مصير المواطن التي عُلّقت العلامات على منزله وأملاكه وأرضه معلّقاً، ويبقى يعيش اللحظة الحالية متنبهاً إلى المستقبل القريب، فمتى عليه أن يبدأ من جديد؟ ومتى سينتزع منه منزله؟ لا أحد يعلم!